ليلة 23 من شهر رمضان ١٤٣٦ - من وصية أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما السلام


لا تستغرق في المكسب:
وَاعْلَمْ يَقِيناً، أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ (إما بمعنى أنك لن تخلد ـ أو بمعنى لن تتحقق كل آمالك وطموحاتك)
وَلَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ (عمرك محدد: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ.. وقد تتساءل ماذا عن البداء؟ أو إطالة العمر ببعض الأعمال من قبيل بر الوالدين والصدقة؟ الجواب أن هذا أجلك أيضاً الذي حدده الله مشروطاً بذلك العمل، ولن تتجاوزه).
وَأَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ (أنت لست مختلفاً عن الآخرين من هذه الناحية، مهما كنت صالحاً ومقرباً من الله، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ... إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ.. هذه هي الحقيقة فلم الغفلة؟).
فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ، وَأَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ (هناك نموذج من الناس يُهلك نفسه ويدخل في كل مجال من أجل المال والدنيا وتكوين الثروة، عقله مشغول ليل ونهار بالحسابات التجارية، إن تحدّث لم يتحدّث إلا في هذا الإطار، وإن خرج من أجواء العمل وجلس في البيت مع أهله أو في المسجد للصلاة لم يزل مشغول الفكر واللسان واليد يومياً بما له علاقة بكسبه.. مثل ما مر على البعض أيام سوق المناخ والبورصة حيث ما كانت الآلة الحاسبة لتقسط من أيديهم قبيل الصلاة وبمجرد انتهائها، ولعلهم لم ينتبهوا في صلاتهم ماذا قالوا وماذا فعلوا وكل أمنيتهم أن تنقضي الصلاة ليعودوا من جديد إلى عالم المال والتجارة.. يقول الإمام: هوّن على نفسك.. اهدأ قليلاً.. خصص لكسبك وقتاً، وفرّغ نفسك لربك ولنفسك ولأسرتك في أوقات أخرى.. وكما قال سلمان الفارسي في ما هو مروي عنه: إِنَّ لِرَبِّكَ عليك حَقًّا، وإِنَّ لِنَفْسِكَ عليك حَقًّا، ولأهْلِكَ عليك حَقًّا. فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، وصدّقه على ذلك النبي كما في الخبر) (وأما مساوئ الإقبال على ما سبق، فمنها: )
1ـ فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَب قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَب (أي سلب المال والكسب حرام، لأن في عالم التنافس المحموم والضرب تحت الحزام، ومن كان مشغولاً عن التفقه في أعمال التجارة فإنه معرَّض للوقوع في هذه المخالفة)
2ـ فَلَيْسَ كُلُّ طَالِب بِمَرْزُوق (فالرزق لا يرتبط فقط بمقدار ما تبذل من جهد، فمن الناس من يبذل جهداً أكبر من سواه، ومع هذا تجده لا يكسب بمقدار من يبذل جهداً أقل من ذلك.. بل تجد دكانين، أحدهما مزدحم بالزبائن والآخر فارغ وكلاهما يقدم ذات الخدمة وذات البضاعة.. إذاً لابد أن ندرك أن هناك معادلة أخرى.. ومن هنا أيضاً نفهم مسألة الدعاء للرزق والتوكل على الله والرضا بقِسَم الله، فقد يقول قائل أنا أخطط وأبذل كل جهدي وأوفر كل لوازم النجاح، فلم الدعاء؟ في غفلة أن تدبير الأمور بيد الله.. قال النبي شعيب: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّـهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)
3ـ وَلاَ كُلُّ مُجْمِل بِمَحْروُم (وهذه تتمة للفكرة السابقة، فلربما تجد من يبذل جهداً معتدلاً ويكسب الكثير.. والخلاصة إن عليك أن تخطط وتعمل وتوفر الأسباب وتتوكل على الله وتدعوه للتوفيق وترضى بما قسم لك ولا تستغرق في طلب الكسب بل كن معتدلاً وأعطِ كلَّ ذي حق حقه)
احفظ كرامتَك:
وَأَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّة وَإِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً (فالبعض من أجل أن ينال موقعاً قيادياً متقدماً في الإدارة يتذلل لهذا وذاك، ويتوسل بهذا وذاك، أنا خادمكم، أنا تحت أمركم، فقط أعطوني هذا المنصب.. وهناك من المرشحين في الانتخابات من يسلك هذا السلوك مع عامة الناس من أجل أن يعطوه أصواتهم.. وهناك من الرجال من يذل نفسه للنساء كي ينال منهن وطراً.. والأمثلة كثيرة.. نعم لربما تنال هذا المنصب أو تصل إلى كرسي التمثيل الشعبي أو تنال حظوة هذه المرأة، ولكن ما الثمن الذي بذلته؟ كرامتك، وهذه الكرامة لا تُقدَّر بثمن ولا يعوّضها شيء).
وَلاَ تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً (فقد يصل الأمر بالبعض أن يجعل نفسه عبداً للآخرين من أجل أن ينال ما يريد.. عبد الحكومة، وعبد عضو البرلمان، وعبد التاجر، وعبد الطاغية، وعبد الدينار، وعبد الجنس، وعبد المخدرات، وعبد الشهرة إلخ القائمة.. [عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إن الله عزوجل فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يكون ذليلاً، أما تسمع قول الله عزوجل يقول: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، فالمؤمن يكون عزيزاً ولايكون ذليلاً. ثم قال: إن المؤمن أعز من الجبل، إن الجبل يُستقل منه بالمعاول، والمؤمن لا يُستقل من دينه شئ])
(قد يقول قائل: ولكنني أنال من خلال هذا مُنيتي، ويأتي الجواب من الإمام قائلاً: ) وَمَا خَيْرُ خَيْر لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِشَرٍّ، ويُسْر لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِعُسْر؟ (وفعلاً الأمر هكذا.. فهل هذا التذلل وهذه العبودية بلا ثمن؟ هؤلاء الذين أعطوك ما تريد بعد أن أذللت نفسَك إليهم يريدون أيضاً ثمن هذا العطاء، وغالباً ما يكون هذا الثمن أمراً حراماً أو غير قانوني أو على حساب حقوق الآخرين وأمثال ذلك من صور الشر، فلو تدبرت بحكمة ستجد أن قيمة ما نلته مما تعتبره خيراً لك ليس بشيء في مقابل ما تقدّمه من بيعك لدينك وكرامتك وأخلاقك وآخرتك)
وَإِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ، فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ (توجف = تُسرع.. فهوى النفس قوي جداً، وهو يدفعك دفعاً للاستجابة لشهواتك ورغباتك، ويمكنه أن يحوّل أطماعك إلى ما يشبه الحصان السريع الذي تركبه
فلا تسيطر عليه، فيقودك في النهاية إلى حيث لا تريد، بل إلى ما يهلكك بأنواع الهلكة)
وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَكَ بَيْنَ اللهِ ذُو نِعْمَة فَافْعَلْ (حاول أن لا تجعل لأحد فضلاً عليك، لأن من عادة الناس حبهم إذلال من يعطونه، خاصة إذا رغبوا منه في يوم ما خدمة فلا يتمكن منها، أو لا يرغب في فعلها، أو يكون مشغولاً عنها، فيأتيها من الكلام وردود الفعل ما لا يُبقي له كرامة وعزة.. أما الله سبحانه فهو الذي لا يمن على عباده مهما أعطاهم.. وتذكر معادلة الرزق وهي: )
فإِنَّكَ مُدْرِكٌ قِسْمَكَ، وَآخِذٌ سَهْمَكَ، وَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ أَعْظَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْه (فالحقيقة أن ما يعطيه الآخرون لك هو ملك الله وعطاؤه لهم).