ليلة ٢٢ من شهر رمضان ١٤٣٦ - من وصية أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما السلام


الدعاء:
وَاعْلَمْ، أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ (ولا أحد سواه يملكها فلا تتوجه بالدعاء إلى سواه، لأنه سيكون عملاً بلا فائدة) وَتَكفَّلَ لَكَ بِالإجَابَةِ. (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ، وَتَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ، وَلَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ (فباب الدعاء مباشرة مفتوح، وإذا أُغلق فلا يفتحه إلى توبتك وندمك ودموعك وصدق دعائك.. لو أغلق هذا الباب فلن يفتحه لك أحد سواه، لأن الشفعاء لا يشفعون إلا لمن ارتضى، وما لم يرتضِ عنك فلا تتأمل أن يتوسط أحد لك، وإذا رضي عنك فلن تكون بحاجة إلى أحد كي يتوسط بينك وبينه، بل سيُفتح لك الباب لتدعوه مباشرة. وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي أُنادِيهِ كُلَّما شِئْتُ لِحاجَتِي وأَخْلُو بِهِ حَيْثُ شِئْتُ لِسرِّي بِغَيْرِ شَفِيعٍ فَيَقْضِي لِي حاجَتِي الحَمْدُ للهِ الَّذِي لا أَدْعُو غَيْرَهُ وَلَوْ دَعَوْتُ غَيْرَهُ لَمْ يَسْتَجِبْ لِي دُعائِي، وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي لا أَرْجو غَيْرَهُ وَلَوْ رَجَوْتُ غَيْرَهُ لأخْلَفَ رَجائِي، وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي وَكَلَنِي إِلَيْهِ فَأَكْرَمَنِي وَلَمْ يَكِلْنِي إِلى النّاسِ فَيُهِينُونِي)
وَلَمْ يَمْنَعْكَ (من الدعاء) إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ (وهذا هو السبيل الوحيد لفتح باب الدعاء لو أُغلق) وَلَمْ يُعَاجِلْكَ بَالنِّقْمَةِ، وَلَمْ يُعَيِّرْكَ بِالإنَابَةِ (بل اعتبر ذلك عزاً لك وفخراً وسبباً للوصول إلى رحمته) وَلَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ الْفَضِيحَةُ بِكَ أَوْلَى (لأنك تستحقها بجرأتك وإصرارك على ذنبك وتكرار معاصيك كلما تاب عليك) وَلَمْ يُشدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ الإنَابَةِ (فالتوبة سهلة وتكون بالندم وترك العود والإصلاح لما أفسدت والتعويض عن تضييعك لجهدك ووقتك ومالك بالعمل الصالح)، وَلَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ، وَلَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ، بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ (رجوعك) عَنِ الذَّنْبِ حَسَنةً، وَحَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً، وَحَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً، وَفَتحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ، فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاك، وَإِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ، فَأَفْضَيْتَ إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ، وَأَبْثَثْتَهُ ذاتَ نَفْسِك، وَشَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَك، وَاسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ، وَاسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِكَ، وَسَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غيْرُهُ، مِنْ زِيَادَةِ الأعْمَارِ، وَصِحَّةِ الأبْدَانِ، وَسَعَةِ الأرْزَاقِ (كما جاء في الدعاء الثامن والعشرين مِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَفَزِّعاً إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَخْلَصْتُ بِانْقِطَاعِي إِلَيْكَ، وَأَقْبَلْتُ بِكُلِّي عَلَيْكَ، وَصَرَفْتُ وَجْهِي عَمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى رِفْدِكَ، وَقَلَبْتُ مَسْأَلَتِي عَمَّنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ، وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْمُحْتَاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأْيِهِ، وَضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ. فَكَمْ قَدْ رَأَيْتُ يَا إِلَهِي مِنْ أُنَاسٍ طَلَبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِكَ فَذَلُّوا، وَرَامُوا الثَّرْوَةَ مِنْ سِوَاكَ فَافْتَقَرُوا وَحَاوَلُوا الِارْتِفَاعَ فَاتَّضَعُوا).
ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفاتِيحَ خَزَائِنِهِ بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيهِ مِنْ مَسْأَلتِهِ (فالمفاتيح هي الدعاء بتوجه، لا أقول قراءة الدعاء أو تكرار طلاسم او كلمات بلا فهم، بل دعاء ومسألة من القلب مع الإحساس بالفقر والضعف) فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعَمِهِ، وَاسْتَمْطَرْتَ شآبِيبَ (أمطار) رَحْمَتِهِ، فَلاَ يُقَنِّطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ (لا تشعر باليأس ولا تسيء الظن به ولا تتوجه إلى سواه) فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ (هذا سبب أول) وَرُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الإجَابَةُ، لِيَكُونَ ذلِكَ أَعْظمَ لأجْرِ السَّائِلِ، وَأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الآمِلِ (هذا سبب ثان) وَرُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلاَ تُؤْتاهُ، وَأُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجلاً أَوْ آجِلاً (وهذا سبب ثالث) أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ (وهذا سبب رابع) فَلَرُبَّ أَمْر قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلاَكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ (ومن هنا انتبه لدعائك فيما تدعو به ولا يكن جل همك أن تدعو للدنيا وزيادة المال ونيل الملذات) فَلْتَكُنْ مَسَأَلَتُكَ فِيَما يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ، وَيُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ، فَالْمَالُ لاَ يَبْقَى لَكَ وَلاَ تَبْقَى لَهُ.
ذكر الموت:
وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلاْخِرَةِ لاَ لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لاَ لِلْبَقَاءِ، وَلِلْمَوْت لاَ لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّكَ فِي مَنْزِلِ قُلْعَة (لا تملكه ولا تدري متى تغادره)، وَدَارِ بُلْغَة (له غاية محددة وتنتهي)، وَطرِيق إِلَى الاْخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَريدُ الْمَوْتِ الَّذِي لاَ يَنْجُو مِنْهُ هَارِبُهُ، وَلاَ بُدَّ أَنَّهُ مُدْرِكُهُ، فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وَأَنْتَ عَلَى حَال سَيِّئَة، قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ، فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكتَ نَفْسَكَ (قبل أن تموت، فاحذر المعاصي، ولا
تسوّف التوبة لو عصيت) يَا بُنَيَّ، أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ، وَتُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَأْتِيَكَ وَقَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ، وَشَدَدْتَ لَهُ أَزْرَك، وَلاَ يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ (ويغلبك).
(ومن أخطر الأمور التي تجعلك تنسى آخرتك وتستغرق في الدنيا الإعجاب بحال الآخرين في ممتلكاتهم وقوتهم وثرائهم وامتداد الحياة بهم واستغراقهم بها وانشغالهم بها عن آخرتهم وسعة حالهم مع ذلك) وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلاَدِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا، وَتَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا (كما قال سبحانه: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) فَقَدْ نَبَّأَكَ اللهُ عَنْهَا (فقال سبحانه: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّـهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، وقال سبحانه: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ، وقال عز اسمه: وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ، وقال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) وَنَعَتْ لَكَ نَفْسَهَا، وَتَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا (ومن مساويها ومعايبها أنها تدفع إلى صراع الناس عليها وتنتزع منهم القيم طمعاً فيها) فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلاَبٌ عَاوِيَةٌ، وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ، يَهِرُّ بَعْضُهَا بَعْضاً، يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا، وَيَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا، نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ، وَأُخْرَى مُهْمَلَةٌ، قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا، ورَكِبَتْ مَجْهُولَهَا. سُرُوحُ عَاهَة بِوَاد وَعْث (إن حال المتكالبين على الدنيا المتصارعين عليها كحال الإبل التي تسرح في الصحراء وتجهد نفسها حيث الأرض رخوة غير مستقرة يصعب فيها المشي فلا تنال بعد ذلك إلا ما يضرّها من مأكل ومشرب) لَيْسَ لَهَا رَاع يُقيِمُهَا، وَلاَ مُسِيمٌ يُسِيمُهَا (بنفس معنى الجملة السابقة) سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى، وَأخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى، فَتاهُوا فِي حَيْرَتِهَا، وَغَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا، وَاتَّخَذُوهَا رَبّاً، فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَلَعِبُوا بِهَا، وَنَسُوا مَا وَرَاءَهَا.
حقيقة الحال:
(أما الحقيقة التي يغفل عنها هؤلاء وستفاجئهم بغتة) رُوَيْداً يُسْفِرُ الظَّلاَمُ، كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الأظْعَانُ (المسافرون) يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ (أما المثقلون بالمعاصي وبالتعلق بالدنيا فوصولهم سيكون متأخراً وصعباً ومتعباً) وَاعْلَمْ، أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ، فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِفاً، وَيَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَإِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً (مستريحاً مستكيناً.. فلا أحد يتخلف عن هذا السفر والمقصد).
اللهم اجعل عواقب أمورنا خيراً.. اللهم لا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى.