ليلة ٢٠ من شهر رمضان ١٤٣٦ - من وصية أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما السلام


لم هذه الوصية؟
أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنّاً، وَرَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً، بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ، وَأَوْرَدْتُ خِصَالاً مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِي، أَوْ أَنْ أَنْقُصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جِسْمِي (أي أفقد من قدراتي العقلية ما أملكه حالياً ومن ذاكرتي ما قد يصيبها من وهن ونسيان) أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى وَفِتَنِ الدُّنْيَا، فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ النَّفُورِ(الفرس الجامح غير المذلل)، وَإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالأرْضِ الْخَالِيَةِ مَا ألْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيء قَبِلَتْهُ (ومن هنا نذكّر دائماً بتربية الأبناء قبل فوات الأوان، كما نهتم في صحتهم الجسمية وفي تلقيهم التعليم المدرسي وفي ترفيههم ولهوهم وهيئتهم الخارجية، علينا أن نهتم بعقولهم، وبإيمانهم، خاصة مع تضخم التحدي اليوم الذي فلت عن زمام سيطرة الوالدين من خلال الوسائل الحديثة، وكلما بادرت كلما سبقت الآخرين في البذرة الأولى، والبذرة الأولى مهمة لأنها تكون عادة معيار المقايسة عن الأبناء) فَبَادَرْتُكَ بِالأدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُو قَلْبُكَ (عندما يجد القوة في جسده والقدرة على تحقيق نوع من الاستقلالية ويشعر بأنه يملك من المعرفة بالزمان أفضل من والديه فيتكبر عليهما ويتمرد على نصائحهما وتوجيهاتهما ويصعب عليه الخضوع لأحد وقد ينشغل باللهو وبمتع الدنيا ما يجعله لا يعير اهتماماً للموعظة) وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ، لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الأمْرِ (أي بصورة جادة) مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ وَتَجْرِبَتَهُ (فلا تكرر الخطأ بل وتستطيع أن تختصر الطريق)، فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَؤُونَةَ الطَّلَبِ، وَعُوفِيتَ مِنْ عِلاَجِ التَّجْرِبَةِ، فَأَتَاكَ مِنْ ذلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيهِ (ستحصل على النتائج بسهولة وكأنها بين يديك بينما كنا نجرب ولربما نوفّق ولربما لا فكان الأمر أشد صعوبة)، وَاسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْهُ.
عدم الاستخفاف بتجربتي ومعارفي؟
أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ
فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْر نَخِيلَتَهُ، تَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ، وَرَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ، وَأَجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذلِكَ وَأَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ مُقْتَبَلُ الدَّهْرِ، ذُو نِيَّة سَلِيمَة، وَنَفْس صَافِيَة، وَأَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَأْوِيلِهِ، وَشَرَائِعِ الإسْلاَمِ وَأَحْكَامِهِ، وَحَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ، لاَ أُجَاوِزُ ذلِكَ بَكَ إِلَى غَيْرِهِ. ثُمَّ أَشْفَقْتُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ مِثْلَ الَّذِي الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ إِحْكَامُ ذلِكَ عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ (وسبب الكراهية هو نزوع الشاب إلى الاستقلالية والاعتزاز بالرأي مما يجعل من الوصية والموعظة بالنسبة إليه نوعاً من الاستهانة بقدراته) أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلاَمِكَ إِلَى أَمْر لاَ آمَنُ عَلَيْكَ بِهِ الْهَلَكَةَ، وَرَجَوْتُ أَنْ يُوَفِّقَكَ اللهُ فِيهِ لِرُشْدِكَ، وَأَنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ، فَعَهِدْتُ إِلَيْكَ وَصِيَّتِي هذِهِ.
العبودية والتذلل لله:
..... وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لأتَتْكَ رُسُلُهُ (ولكن كل الأنبياء قالوا أنهم رسل الله الخالق جل وعز)، وَلَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَلَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وصِفَاتِهِ وَلكِنَّهُ إِلهٌ وَاحدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، لاَ يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ، وَلاَ يَزُولُ أَبَداً وَلَمْ يَزَلْ، أَوَّلٌ قَبْلَ الاشْيَاءِ بِلاَ أَوَّلِيَّة، وَآخِرٌ بَعْدَ الاشْيَاءِ بِلاَ نِهَايَة، عَظُمَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبِيَّتُهُ بَإحَاطَةِ قَلْب أَوْ بَصَر. فَإِذَا عَرَفْتَ ذلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ (اعرف حجمك الحقيقي أمام الله ستتقين أنك المحتاج إليه، الضعيف أمام قدرته، مما يجعلك دائم الارتباط به، تسعى لنيل رضاه، وتتجنب مواطن سُخطه، وتفعل ما يريد، وهو لا يريد منك إلا ما يعود عليك بالخير والصلاح) فِي صِغَرِ خَطَرِهِ وَقِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ، وَكَثْرَةِ عَجْزِهِ، عَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ، فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ، وَالرَّهْبَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالشَّفَقَةِ مِنْ سُخْطِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْكَ إِلاَّ بِحَسَن، وَلَمْ يَنْهَكَ إِلاَّ عَنْ قَبِيح. (وللإمام كلمات عديدة يركّز فيها
على هذه النقطة التي يعتبرها من أهم أسباب الانحراف، وهي تضخم الأنا والشعور بالقوة والاستقلال في الحياة، وأكثر مَن يمكن أن يُبتلى بها الشباب، وأصحاب النفوذ والقوة، والأثرياء، ويعتبر أن إبليس يمثّل النموذج الحي للخسران المبين لمن يكرر ذات الخطأ).
نصائح عامة:
يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ. (وهذه قمة الإنصاف ومن طرق التعامل العادل مع الآخرين وحسن السلوك)
وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تعْلَمُ (خاصة مما يمس أحوال الناس وشخصياتهم وأفعالهم وما يمكن أن يسيء إليهم أو يؤذيهم فيما لو عرفوه، فإعلانك أنك تجهل واقعهم أفضل من أن تتهمهم بما هم أبرياء منه) وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الإعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ وَآفَةُ الألْبَابِ (لأنه يدفعك إلى أن ترى أنك المحق على طول الخط، وأن ما
تفعله حسن، مهما تكلم الآخرون ونصحوك وأثبتوا لك الخطأ أو قُبْح الفعل، وهو يُلغي عملية التفكير، لأن الحكم بالصحة والحُسن قد صدر مسبقاً، وقد يدفعك نقد الآخرين إلى سوء الظن فيهم واتهامهم بالباطل. لقد أعجب القراء بأنفسهم فلم يكونوا على استعداد لسماع حُجج الإمام (ع) وأصحابه، فأغلقوا عقولهم وأصمّوا آذانهم، وكانت النتيجة أن تحولوا من معسكر الحق إلى الخسران المبين).
فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ (كن صاحب الهمة العالية والطموح لتحقيق النتائج وتحسين وضعك المعيشي ولكن انتبه إلى نقطة وهي) وَلاَ تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ (بحيث تبخل عن أداء ما افترض الله عليك، أو ما ندب إليه من الصدقات ورفع حاجات الآخرين، أو بأن تبخل على أسرتك.. وحينها ستجمع المال وتخزنه دون أن تستفيد منه، بل وستعاقب على ما لم تستمتع به، فتكون قد خسرت الدنيا والآخرة).
وَإِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ (فلا تغتر بقدراتك وما جمعت من مال أو قوة أو نفوذ، بل تذكر نعم الله عليك وسيدفعك ذلك لمزيد من العبودية والخشوع لله).
وَاعْلَمْ، أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقاً ذَا مَسَافَة بَعِيدَة، وَمَشَقَّة شَدِيدَة، وَأَنَّهُ لاَ غِنَى بِكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ الارْتِيَادِ، وَقَدْرِ بَلاَغِكَ مِنَ الزَّادِ (بأن تتزود بما يكفيك لإيصالك إلى غايتك وهي الجنة).
مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ (فالمسافر الخفيف الحِمل أسرع وأيسر وصولاً إلى مبتغاه، والذي يُثقل حركة المسافر إلى الله الذنوب والتعلق بالماديات) فَلاَ تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، فَيَكُونَ ثِقْلُ ذلِكَ وَبَالاً عَلَيْكَ.
وَإِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيُوَافِيكَ بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَاغْتَنِمْهُ وَحَمِّلْهُ إِيَّاهُ، وَأَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ (فإعانتك للمحتاجين شبيه بهذا) فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلاَ تَجِدُهُ (فالفرص تمر مر السحاب) وَاغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ في حَالِ غِنَاكَ، لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ في يَوْمِ عُسْرَتِكَ.