ليلة ١٩ من شهر رمضان ١٤٣٦ - من وصية أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما السلام ١ من ٣


ومن وصيّته (عليه السلام) للحسن بن علي(عليه السلام)
كتبها إليه بـ "حاضرين" عند انصرافه من صفّين
يتحدث فيها علي(ع) كأب مع ابنه، لا كإمام مع إمام، وهذا ما يجب أن نلحظه في أثناء الشرح. كما ينبغي أن نلحظ مكان صدور الوصية، وتأثير ذلك في الحديث عن الانحرافات ومواضع الشك، فقد كان ارتداد الخوارج عن موقف النصرة والولاء إلى موقف الخذلان بل العداء، مع الشبهات التي أثاروها، والشبهات التي أثيرت من قبل المعسكر الأموي حول المطالبة بدم الخليفة عثمان، ورفع المصاحف للاحتكام إليها وغيرها من تفاصيل، كلها تستدعي من الإمام الحديث عن هذا الموضوع.
مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ، الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ(المعترف له بالشدة)، الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ، الْمُسْتَسْلِمِ لِلدَّهْرِ، الذَّامِ لِلدُّنْيَا، السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى، الظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً.
إِلَى الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لاَ يُدْرَكُ (وهو الخلود في هذه الدنيا ولا يعمي الإمام علي أن ابنه الحسن كان يعيش الأحوال التي سيأتي على ذكرها، بل يعني أن كل مولود في الدنيا معرّض أن يعيش هذه الحالة)، السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ. غَرَضِ الاسْقَامِ (هدف الامراض وكأنها ترمي إليه سهامَها)، رَهِينَةِ الايَّامِ (أسير عندها لأنه في قبضتها وتحت حكمها)، وَرَمِيَّةِ (ما أصابه السهم) الْمَصَائِبِ، وَعَبْدِ الدُّنْيَا (يتحول المولود في الدنيا إلى عبد لها)، وَتَاجِرِ الْغُرُورِ (أن يعمل الإنسان في الدنيا لأجل الدنيا فهو مغرور)، وَغَرِيمِ الْمَنَايَا (لا يحب الموت فهو يعتبره خصمه) وَأَسِيرِ الْمَوْتِ (ولكن الموت مصيره المحتوم ولا فكاك منه)، وَحَلِيفِ الْهُمُومِ (فالمصائب والمسؤوليات في الدنيا تتوالى بأنواعها، وكلها تجلب الهموم)، قَرِينِ الاحْزَانِ (مهما سعى أن يُغيِّب نفسه في أوساط اللهو والعبث والأجواء المرحة)، وَنُصْبِ الاْفَاتِ (لا تفارقه العلل)، وَصَرِيعِ الشَّهَوَاتِ (لأنها قوية إلى درجة أنها تغلب العقل والإرادة في أحيان كثيرة)، وَخَلِيفَةِ الامْوَاتِ (اليوم أنت تحل محل الاموات ثم سيحل محلك مولود جديد على هذه الأرض، فاحذر أن يباغتك الموت وأنت على غير الحال التي يريد لك الله أن تكون عليها).
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ فِيَما تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي، وَجُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَيَّ (إذ لا أملك السيطرة عليه)، وَإِقْبَالِ الآخِرَةِ إِلَيَّ، مَا يَزَعُنِي (يصدّني) عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ، وَالاْهْتِمامِ بِمَا وَرَائِي (أي كان يفترض بمن هذا حاله أن لا يفكّر إلا في نفسه، إلا أن أمرين دفعاني لكتابة هذه الوصية)
1ـ غَيْرَ أَنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمُّ نَفْسِي، فَصَدَفَنِي رَأْيِي، وَصَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ، وَصَرَّحَ لِي مَحْضُ أَمْرِي، فَأَفْضَى بِي إِلَى جِدٍّ لاَ يَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ، وَصِدْق لاَ يَشُوبُهُ كَذِبٌ. (الاهتمام بهذا الأمر المختص بنفسي دفعني إلى التعامل بجدية وإخلاص معه)
2ـ وَوَجَدْتُكَ بَعْضِي، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي، حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي، وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي، فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِيني مِنْ أَمْرِ نَفْسِي، فَكَتَبْتُ إِليْكَ كِتَابِي هَذا، مُسْتظْهِراً بِهِ (مستعيناً به سواء) إِنْ أَنا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ.
ـ الوصية بالتقوى:
فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ ـ أَيْ بُنيَّ ـ وَلُزُومِ أَمْرِهِ، وَعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ، وَالاْعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ. وَأَيُّ سَبَب أَوْثقُ (حبل ووسيلة ارتباط أقوى وأشد) مِنْ سَبَبٍ بَيْنكَ وَبَيْنَ اللهِ عَزّوَجَلَّ إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ؟! (فنجاتك في دار الابتلاء هذه بالتمسك بالتقوى، والسبيل إلى تحقيق التقوى ما يلي).
أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ (معادلة غريبة تجمع بين الموت والحياة في موضع واحد وهو القلب، ولكنها معادلة صحيحة لأن الاهتمام بالدنيا وعوارضها سبب للتشاغل عن الله والتقوى والآخرة والعمل الصالح. فلابد من جهة أن تقضي على هذا الاهتمام، ومن جهة أخرى أن تزيد من جرعات الموعظة التي تكشف لك حقيقة أن الدنيا دار فناء، وأن الآخرة بانتظارك وهي تتطلب الزاد والثمن لنيل رضا الله).
وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ (اليقين بالتوحيد وأن هذه دنيا فانية وأن المصير هو الآخرة)
وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ (من خلال النظر في حقيقة الحياة ومسيرها والهدف من الوجود والطريقة الأسلم للتعامل مع هذا كله)
وَذَلّـِلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ (حيث يقل بذلك التفكير في الشهوات وملذات الدنيا فيفكر في الآخرة)
وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ (ذكّر القلب بشكل دائم بأن الموت حتم حتى يقرّ ولا يصيبه الشك)
وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي وَالايَّامِ (وكل هذه من أسباب تحقيق التقوى في القلب والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة) وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وَذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الأوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ مَا فَعَلُوا عَمَّا انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا! (اجعل من أسفارك التي تتنقل فيها بين البلدان وتشاهد فيها آثار الحضارات وسيلة للاعتبار وليس للترفيه فقط) فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ انْتَقَلُوا عَنِ الأحِبَّةِ، وَحَلُّوا دَارَ الْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيل قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ (كالأموات).
نتيجة إدراك ما مضى لتحقيق النتيحة المطلوبة:
1) فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ (قبرك أو آخرتك)، وَلاَ تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ. (وما أكثر الذين وقفوا ضد علي في تلك الظروف لأجل الدنيا)
2) وَدَعِ الْقَوْلَ فِيَما لاَ تَعْرِفُ، وَالْخِطَابَ فِيَما لَمْ تُكَلَّفْ. (لأن القول بلا علم قد يؤسس لبدعة، وأنت غير مكلف بشئ لم تعرفه، فإذا عرفته صرت مكلفاً بالعمل به وبتعليمه)
3) وَأَمْسِكْ عَنْ طَرِيقٍ إِذَا خِفْتَ ضَلاَلَتَهُ. فَإِنَّ الْكَفَّ (والامتناع) عِنْدَ حَيْرَةِ الضَّلاَلِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الأهْوَالِ (أي خير من سلوك طريق أنت غير متأكد من سلامتها قد تؤدي بك إلى ركوب الأهوال، ولذا تيقّن أوّلاً من صحة الطريق وسلامتها فقد توصلك إلى الإلحاد أو اللادينية أو الشرك أو الانحراف أو ارتكاب المعاصي) قال رجل: (إني خرجت من أهلي مستبصراً في الحق الذي نحن عليه لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم وأنهم على الباطل، فلم أزل على ذلك مستبصراً حتى كان ليلتي هذه، صباح يومنا هذا، فتقدم منادينا فشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ونادى بالصلاة، فنادى مناديهم بمثل ذلك، ثم أقيمت الصلاة فصلينا صلاة واحدة، ودعونا دعوة واحدة، وتلونا كتاباً واحداً، ورسولنا واحد، فأدركني الشك في ليلتي هذه، فبتُّ بليلةٍ لا يعلمها إلا الله حتى أصبحتُ، فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له. فقال: هل لقيت عمار بن ياسر؟ قلت: لا . قال: فالقه فانظر ما يقول لك فاتبعه. فجئتك لذلك. قال له عمار: هل تعرف صاحب الراية السوداء المقابلتي؟ فإنها راية عمرو بن العاص، قاتلتُها مع رسول الله "ص" ثلاث مرات، وهذه الرابعة ما هي بخيرهن ولا أبرهن، بل هي شرهن وأفجرهن. أشَهِدتَ بدراً وأحداً وحُنيناً، أو شهِدَها لك أب فيخبرك عنها؟ قال: لا. قال: فإنَّ مراكزنا على مراكز رايات رسول الله "ص" يوم بدر، ويوم أحد، ويوم حنين، وإن هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب...).
4) وَأْمُرْ بالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ (وكأنك فعلته)، وَأَنْكِرِ المُنكَرَ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ (أي بالفعل والقول، وهذا لا يعني الفوضى والاعتداء على الآخرين ولكن يعني بذل الجهد لإصلاح الخلل، فلو كان المنكر من قبيل تفشي ظاهرة الرشوة بين الموظفين، فلابد من إصدار قوانين وتشكيل أجهزة رقابية ومحاسبة مع الدور الوعظي بالقول والخطابة والكتابة) وَبَايِنْ (ابتعد عن) مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ (بحيث لا تُحسب واحداً من فاعلي هذا المنكر، فتحفظ سمعتك، وتبيّن لهم سوء فعلهم)، وَجَاهِدْ فِي اللهِ حَقَّ جَهَادِهِ، وَلاَ تَأْخُذْكَ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئم، وَخُضِ الْغَمَرَاتِ (الشدائد) إلَى الحَقِّ حَيْثُ كَانَ (فبعض المنكر يكون من الصعب مواجهته وتتطلب حينها التضحية والصبر).
5) وَتَفَقَّهُ فِي الدِّين (لأن العمل عن جهل قد يوقعك في منكر آخر، ولربما يصوّر لك جهلُك ما ليس منكراً على أنه منكر، كما يخدعون الشباب ويملؤون عقولهم بأن مَن سواهم يمثّلون الشرك والكفر ويجب قتلهم ولو كانوا آباءهم).
6) وَعَوِّدْ نَفْسَكَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَنِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُّرُ.
7) وَأَلْجِىءْ نَفْسَكَ فِي الأمُورِ كُلِّهَا إِلَى إِلهِكَ، فَإِنَّكَ تُلجِئُهَا إِلَى كَهْف حَرِيز (منيع)، وَمَانِع عَزِيز (لا يُقهر)، وَأَخْلِصْ فِي الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ، فَإِنَّ بِيَدِهِ الْعَطَاءَ وَالْحِرْمَانَ (وكن على ثقة من ذلك وأحسن الظن بالله) وَأَكْثِرِ الاسْتِخَارَةَ (أي طلب الخير من الله وأن يبصّرك ما هو صالح، أو إجالة الرأي في الأمر قبل فعله لاختيار أفضل وجوهه).
وَتَفَهَّمْ وَصِيَّتِي، وَلاَ تَذْهَبَنَّ عَنْكَ صَفْحاً (لا تضيّعها أو تهملها)، فَإِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، وَلاَ يُنْتَفَعُ بِعِلْم لاَ يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ (كأن يكون ضررُه أكثر من نفعه).