خطبة الجمعة 2 رمضان 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: التوبة المرفوضة


ـ قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّـهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَـٰئِكَ يَتُوبُ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)[النساء:17-18].
ـ هذه الآيات الشريفة ليست غريبة علينا من حيث اللفظ والتلاوة، ولكن هل هي غريبة علينا من حيث الدلالة؟
ـ سؤال واحد يكشف لنا عن الإجابة: ما هي آخر فرصة تُعطى للإنسان كي يتوب؟
ـ لعل كثيرين يجيبون على البداهة أن باب التوبة مفتوح حتى الأنفاس الأخيرة، إلى أن تصل الروح إلى الحلقوم وهي تخرج.. وبتعبير الحديث المنسوب للنبي(ص) أنه قال: (إن الله يقبل توبةَ عبده ما لم يُغرغر).
ـ هذه الإجابة تكشف عن أن دلالة الآيات السابقة غريبة عنا، أو جُعلت هكذا نتيجة التعليم الخاطئ والمنهج الخاطئ في تلقّي معارف الدين.
ـ في الآيتين السابقتين صورتان متقابلتان للتوبة، صورتُها عند حضور الموت، وهي التوبة المرفوضة بدليل قوله: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)، وصورتها الأخرى عند المبادرة إلى التوبة حال الحياة بدليل قوله: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَـٰئِكَ يَتُوبُ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ).
ـ وكأن الآيات تقول: لا تسوِّف التوبة منتظراً اللحظات الأخيرة من حياتك حين تجد أن لا هروب من الموت، فتُعلن حينها أنك تائب إلى الله.. فلا توقيت الموت معروف، ولا كيفيته التي قد تُفاجأ من خلالها بقبض الروح في لمح البصر، ولا التوبة في ذاتها مقبولة في تلك اللحظات لو سنحت لك الفرصة.
ـ إذا كانت الآيات بهذا الوضوح في الدلالة، فما الذي يجعلنا نجيب بتلك الصورة؟
1ـ التعليم الخاطئ الذي لا يعتمد على القرآن كأساس في مرجعية المعارف الإسلامية، فيلجأ أحياناً إلى أحاديث ضعيفة أو مشوّشة الدلالة ويقدّم من خلالها الفكرة الخاطئة.
2ـ المنهج الخاطئ حين يواجِه الإنسان آية تتعارض في دلالتها مع حديث، فيقدم الحديث ويؤخّر الآية، وهذا خطأ منهجي.. فالآية قطعية الصدور، والحديث ظني حتى ولو كان صحيح السند، لاحتمال اختراع السند، واحتمال الكذب على النبي(ص) أو الإمام(ع)، واحتمال الوهم في السماع، وغير ذلك.
ـ ولذا كان المنهج كما عن الصادق(ع) قال: (خَطَب النبي (ص) بمنى، فقال: أيها الناس، ما جاءكم عني يوافق كتابَ الله فأنا قلتُه، وما جاءكم يخالفُ كتابَ الله فلم أقلْه). وعن الصادق(ع): (... وكلُّ حديث لا يوافق كتابَ الله فهو زخرف)، وعن محمد بن مسلم قال: قال أبوعبدالله(ع): (يا محمد، ما جاءك في رواية
من بَر أو فاجر يوافق القرآن فخذ به، وما جاءك في رواية من بَر أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به).
3ـ قُرب هذا المفهوم إلى النفس دون الصورة القرآنية للمسألة، حيث تسمح له أن يفعل ما يشاء ثم إذا حضره الموت وأيقن، تاب إلى الله فتاب الله عليه، تماماً كفرعون: (حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[يونس:90].
ـ فهل نفعَه إيمانُه عندما أيقن بالموت؟ تخيّلوا أن البعض قال نعم! ويتحدّون بأن الله لم يذكر في القرآن أن فرعون معاقب في الآخرة! وهذا تلاعب في كلام الله، وهو القائل بعد الآية السابقة مباشرة: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)[يونس:91-92].. وما أروع هذا التعبير: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)!
ـ لقد قرن الله التوبةَ بالإصلاح عندما يتحدث عنها: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[آل عمران: ٨٩]، (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النحل:119]، (وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّـهِ مَتَابًا)[الفرقان:71].
ـ فهل يستطيع من أيقن بالموت وأيِس من الحياة في اللحظات الأخيرة منها أن يعمل الصالحات ويُصلح؟
ـ وفي هذه اللحظات المباركة وفي هذا اليوم المبارك وفي هذا الشهر المبارك نتوجه إلى الله بنيات صادقة وقلوب خاشعة مع كلمات مولانا زين العابدين(ع) في الصحيفة السجادية مبادرين إلى التوبة مما قدّمنا ولو في سالف الأيام قبل أن يهجم علينا الموت ولات حين مندم، قال(ع): (اللَّهُمَّ إنِّي أَتُوبُ إلَيْـكَ فِي مَقَامِي هَذَا مِنْ كَبَائِرِ ذُنُوبِي وَصَغَائِرِهَا، وَبَوَاطِنِ سَيِّئآتِي وَظَوَاهِرِهَا، وَسَوالِفِ زَلاَّتِي وَحَوَادِثِهَا، تَوْبَةَ مَنْ لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِمَعْصِيَة، وَلاَ يُضْمِرُ أَنْ يَعُودَ فِي خَطِيئَة، وَقَدْ قُلْتَ يَا إلهِي فِي مُحْكَمِ كِتابِكَ إنَّكَ تَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِكَ، وَتَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ، وَتُحِبُّ التَّوَّابِينَ، فَاقْبَلْ تَوْبَتِي كَمَا وَعَدْتَ وَأعْفُ عَنْ سَيِّئاتِي كَمَا ضَمِنْتَ، وَأَوْجِبْ لِي مَحَبَّتَكَ كَمَا شَـرَطْتَ... اللَّهُمَّ إنْ يَكُنِ النَّدَمُ تَوْبَةً إلَيْكَ فَأَنَا أَنْدَمُ اْلنَّادِمِينَ، وَإنْ يَكُنِ التَّرْكُ لِمَعْصِيَتِكَ إنَابَةً فَأَنَا أَوَّلُ الْمُنِيبينَ، وَإنْ يَكُنِ الاسْتِغْفَارُ حِطَّةً لِلذُّنُوبِ فَإنَي لَكَ مِنَ الْمُسْتَغْفِرِينَ. اللَّهُمَّ فَكَمَا أَمَرْتَ بِالتَّوْبَةِ وَضَمِنْتَ الْقَبُولَ وَحَثَثْتَ عَلَى الدُّعَـاءِ وَوَعَدْتَ الإجَابَةَ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدِ وَآلِهِ وَاقْبَلْ تَوْبَتِي وَلاَ تَرْجِعْني مَرجَعَ الخَيبَةِ منْ رَحْمَتِك إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ عَلَى الْمُذْنِبِينَ، وَالرَّحِيمُ لِلْخَاطِئِينَ الْمُنِيبِينَ) .