خطبة الجمعة 25 شعبان 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: هل انتفت الحاجة إلى العبادة؟


ـ هل العبادة مطلبٌ أصيلٌ في الإسلام، أم أنها لبلوغ غايات محددة، ومتى ما تحققت انتفت الحاجة إلى العبادة وتحوَّلت إلى شيء اختياري؟
ـ وبعبارة أخرى: لو وصل الإنسان إلى مراتب متقدمة من الصلاح، أيبقى مأموراً بالعبادة؟
ـ ولو حققها من خلال التربية مثلاً ـ دون عبادة ـ كما نشهد ذلك في بعض البلدان الراقية في التزام القانون والنظام والوفاء بالعهود واحترام الوقت وأمثال ذلك، أفيبقى مأموراً بالعبادة؟
ـ أولاً: لاشك أن إصلاح النفس والعمل الصالح غاية للعبادة، إلا أنها لا تمثل العلة الكاملة حتى نقول أنه متى ما تحققت، انتفت الحاجة إلى العبادة.
ـ لاحظ كيف قدَّم الإمام علي(ع) بعض الأبعاد المرجوة من العبادة، ففي الخطبة القاصعة قال: (وَعَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ، تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ، وَتَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَتَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَتَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَإِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَالْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَلُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا).
ـ فمن غايات العبادة أن يعيش المسلمُ حالةَ العبودية والخضوع لله، وجزء كبير من مشكلة هؤلاء الذين يقولون
نكتفي بالعقل، ولم تعد لنا حاجة إلى ولاية أحد، ولا إلى شريعة، بما في ذلك ولاية الله وشريعته، كما لم نعد بحاجة إلى عبادة، هو انتفاخ الأنا النوعي أمام الله ورسوله وأوليائه.
ـ ومن هنا تأتي العبادة لتذكّر الإنسان بحقيقته أمام عظمة الله لكي لا يقع في هذا الانحراف الكبير، وهو ما نبّه عليه الإمام الرضا(ع) في حديثه عن غايات الصلاة: (... مع ما فيه من الإيجاب والمداومة على ذكر الله عزوجل بالليل والنهار، لئلا ينسى العبدُ سيدَه ومدبِّرَه وخالقَه فيبطر ويطغى).
ـ ثم هناك غاية ثالثة من العبادة، وهي التمهيد لرفيع الدرجات في الآخرة، ففي الآخرة محاسبة على المعاصي، وتنافس على مراتب الجنة.. ومن عوامل العفو عن المعصية والارتقاء في المراتب: الإقبال على العبادة. ولذا قال علي(ع) في الخطبة القاصعة: (وَلِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ، وَأَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ).
ـ ثانياً: العبادة الواعية تخلقُ شخصيةً صالحةً انطلاقاً من الذات، أي من تقوى النفس: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
ـ لا من خلال رقابة الآخرين عليه، ولا من خلال قوة القانون، بحيث أنه متى ما غابت الرقابة وغاب القانون لم يجد مانعاً من فعل ما كان يمتنع عنه.. وهذا فارق جوهري بين الحالتين.
ـ ثالثاً: التزام القانون واحترام النظام والوفاء بالعهود وأمثال ذلك ليست الصورة الكاملة للشخصية الصالحة.. نعم هي من مصاديقه الكبرى، إلا أن هناك قائمة أخرى من الأخلاق الفردية والاجتماعية والأعمال الصالحة إنما تتحقق من خلال التربية الإيمانية، والتربية الإيمانية رافدها الأساسي العبادة.
ـ فبر الوالدين، وصلة الأرحام، وإغاثة الملهوف، والتواضع، والطمأنينة النفسية، والرضا بقضاء الله، وعفة البطن والفَرْج، والصبر والحلُم، والكرم والرفق وغيرها، تمثّل قائمة طويلة من مكوّنات الشخصية الصالحة التي لا تتحقق إلا من خلال التربية المتكاملة التي يعمل الإسلام على توفيرها بوسائل متعددة، من بينها العبادة.
ـ رابعاً: العبادة تعبير عن شكر الله سبحانه بما هو مُنعم.. فلو أعانك أحدُهم على قضاء حاجة كرَّرْتَ له الشكر مرات ومرات، وحفِظتَ له هذا الجميل في قلبك.. فكيف بمن نِعمُه لا تتوقف لحظة واحدة؟
ـ في دعاء الإمام زين العابدين(ع) في الصحيفة السجادية بعنوان (إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر): (اللَّهُمَّ إنَّ أَحَداً لاَ يَبْلُغُ مِنْ شُكْرِكَ غَايَةً، إلاّ حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ إحْسَانِكَ مَا يُلْزِمُهُ شُكْرَاً، وَلا يَبْلُغُ مَبْلَغاً مِنْ طَاعَتِكَ وَإن اجْتَهَدَ، إلاَّ كَانَ مُقَصِّراً دُونَ اسْتِحْقَاقِكَ بِفَضْلِكَ، فَأَشْكَرُ عِبَادِكَ عَاجِزٌ عَنْ شُكْرِكَ، وَأَعْبَدُهُمْ مُقَصِّرٌ عَنْ طَاعَتِكَ).
ـ خامساً: فإنَّ لعبادة الله عن وعي دوراً في إنقاذ الإنسان من الخضوع للطاغوت وطاعة المستكبرين، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وكلُّ مَن يُعبد من دون الله فهو طاغوت، وكل مَن يَطغى على العباد فهو طاغوت.
ـ إن عبادة الله سبحانه وتعالى ضرورة حتمية ومطلب أصيل لا تتوقف غاياته على مشارف صلاح النفس، بل تبقى متناغمة مع استمرارية وجود الإنسان في دار الابتلاء.. وما الحديث عن انتفاء الحاجة إلى العبادة بتحقق التطور النوعي للعقل البشري إلا انعكاسٌ لطغيانِ الإنسان على خالقِه المنعِم، وتسويلٌ من تسويلات الشيطان الذي قالَ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، وقال: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ).