خطبة الجمعة 18 شعبان 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: الإسلام الليبرالي


ـ تبيَّن من الخطبة الأولى أن الحرية في الليبرالية والدعوة لمركزية الإنسان تقوم على التحرر من النزعة الدينية، ففي الأديان قيود، وسلطات، وولاية لله وللأنبياء ولخلفائه.. أما الليبرالية فتدعو إلى رفض كل سلطة، والتحرر من كل تكليف.. وبعبارة أوضح فإن الليبرالية تدعو إلى التحرر من مركزية الإله في الوجود.
ـ في عالمنا الإسلامي ـ وأتكلم خاصة عن وسطنا الشيعي ـ تدرجت الدعوة إلى متبنيات الإسلام الليبرالي.
ـ بدأَت بالدعوة إلى إصلاح المؤسسات الدينية، ورفْض سلطة العلماء (الكهنوت)، والدعوة إلى قراءات جديدة للنص الديني، وإلى ضرورة التفريق بين الدين وبين فهم العلماء الماضين للدين.. وهو كلام في ظاهره ومجمله مقبول، بل إن بعض بنوده ضرورة حتمية.
ـ ثم خطا دعاة الإسلام الليبرالي خطوة أخرى، حيث اعتبروا أن النضج والتطور الإنساني بلغ مستوىً بحيث لا يحتاج معه الفرد إلى الالتزام بتشريعات محدَّدة على المستوى الشخصي.
ـ وعليه، فلم تعد هناك حاجة إلى شيء اسمه حرام وواجب. الحرام ما تختار أنت أن لا تفعله.. ولو غيّرت رأيك في أية لحظة وأردتَ فعلَه فهذا شأنُك، لأنك حر. وهكذا بالنسبة إلى الواجب.. وفي كل الأحوال لا أحد يحاسبك على الفعل والترك ما دمتَ لم تُلحِق الضرر بالآخرين ولم تسيء إلى حريتهم.
ـ إذا أردتَ أن تصلي فهذا شأنك، ولكنك لا تصلي لأنّ الصلاة واجبة ومفروضة، بل لأنها شيء محبب إلى نفسك، أو ترى لها فائدة ما، فلو انتفى ذلك كله، فلك أن تترك الصلاة! وعلى هذا فقس سائر التكاليف.
ـ إذا أردتَ أن تزني مع امرأة بالغة رشيدة غير متزوجة، وقد وافقَتْك على ذلك، فهذا شأنُك.. وعلى هذا فقس.
ـ ثم تقدَّموا خطوة أخرى باتجاه نفْي الوحي، فقالوا أن القرآن ليس مُنزلاً من عند الله، بل هو نتاجٌ بشري، ولذا فلا قدسية للقرآن، ولا سلطة له، وتشريعاتُه ومفاهيمُه لم تعُدْ صالحةً لزماننا!
ـ من المنطقي أن تصدر هذه الأفكار من دعاة الليبرالية، لأن محور الليبرالية فكُّ الإنسان من أية سلطة وولاية بما في ذلك ولاية الله، ولكن ليس من المنطقي أنْ يصدِّق أحد بوجود تركيبة باسم (الإسلام الليبرالي).
ـ فالإسلام قائم على العبودية المطلقة لله: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163]، والطاعة المطلقة لله والرسول وأولي الأمر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النساء:59]، وانعكاس كل ذلك قولاً وعملاً كما جاء في كلمة أمير المؤمنين(ع).. فكيف يُتصور اجتماع المتعارِضَيْن؟
ـ ولذا صرّحوا ـ وبكل وضوح ـ بأننا لم نعد بحاجة إلى إمام.. لا ليقودنا سياسياً، ولا ليقدّم لنا الفقه، فرفضوا فكرة ولاية الأئمة(ع)، واعتبروا أن ولايتهم ـ بل حتى ولاية النبي(ص) ـ كانت حاجة بشرية مؤطرة في حدود زمنية، وقد انتهت، فقد تطوَّر الإنسان، وحلَّ عقلُه محلَّ كلِّ السلطات.
ـ والفكرة السابقة دفعتهم إلى إنكار القضية المهدوية، لأنها تتعارض في الصميم مع رؤيتهم إلى تطور الإنسان وحتمية تحرره من كل سلطة وحاكمية، بما في ذلك ولاية وحاكمية الإمام المنتظر.
ـ ثم قالوا إن النبي(ص) الذي هو أفضل من المهدي(ع) لم يستطع أن يزيل الظلم والجور، ولم ينجح في تحقيق العدل في مجتمع صغير، فكيف يمكن للمهدي أن يحقق ذلك في الكرة الأرضية بأجمعها مع وجود ولاة وقضاة ورجال شرطة وموظفين وغيرهم... وكلهم غير معصومين.
ـ إن تشكيك دعاة الإسلام الليبرالي في دولة العدل المنتَظرة يقوم على فهم خاطئ، فإقامتها لا تعني عدم صدور ظلم من أحد، ولا تعني تحوّل المسؤولين والشعوب إلى ملائكة، بل تعني وجود سلطة تؤمِن إيماناً حقيقياً بالعدل، ولديها من التشريعات والأدوات ما يمكّنها من بسط العدل وإعادة الحقوق لأصحابها، ومحاسبة المخطئين، والانطلاق تدريجياً من خلال القواعد الإيمانية والأساليب التربوية والروحية والأخلاقية الكفيلة بتحقيق التغيير نحو العدالة المنشودة التي ستملأ الأرض وتحاسب المخطئين وتعمل على صناعة جيل يدرك قيمة العدل والنظام والقانون. ولقد استطاع الغرب الأوروبي تحقيق قفزة نوعية على هذا المستوى بعد الدمار المهول الذي لحقه في الحربين العالميتين، فتوافقت الحكومات والشعوب على صياغة كياناتهم بما يحقق لهم الأمن والرخاء والعدالة التي ينشدونها.. أفلا يمكن تصوّر تحقق مشروع دولة العدل المهدوية في مثل تلك الظروف، ولكن على مستوى أوسع نطاقاً وبتسديد من رب العالمين؟
اَللّـهُمَّ اِنّا نَرْغَبُ اِلَيْكَ في دَوْلَة كَريمَة تُعِزُّ بِهَا الإسلام وَاَهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وَاَهْلَهُ، وَتَجْعَلُنا فيها مِنَ الدُّعاةِ اِلى طاعَتِكَ، وَالْقادَةِ اِلى سَبيلِكَ، وَتَرْزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنْيا وَالاْخِرَة.