خطبة الجمعة ـ الخطبة الثانية: 4 شعبان 1436 : رحمة النبي وآله


ـ عُرف العربي الجاهلي بقساوة القلب، وفي القرآن الكريم يطالعنا مشهد قتل الأبناء: (وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ)[الأنعام:137] إما بتقديمهم كقرابين للآلهة، أو بالوأد الذي جُعل أمراً محبباً درءً للنحس ووقايةً من العار، ليمثّل ذلك واحداً من أبشع صور قساوة القلب عند الإنسان.
ـ وفي خبر أنه (قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا! فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (ص) ثُمَّ قَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَم).
ـ وفي خبر آخر أن النبي(ص) رأى صحابياً دائم الحزن، فلما استفسر منه السبب قال: (إني أذنبت ذنباً في الجاهلية فأخاف ألا يغفره الله لي وإن أسلمت! فقال له: أخبرني عن ذنبك؟ فقال: يا رسول الله، إني كنت من الذين يقتلون بناتَهم، فوُلدت لي بنتٌ فتشفَّعت إليّ امرأتي أن أتركها، فتركتها حتى كبُرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء، فخطبوها، فدخلتني الحمية، ولم يتحمل قلبي أن أزوجها، أو أتركها في البيت بغير زواج، فقلت للمرأة إني أريد أن أذهب الى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فأبعثيها معي، فسرَّت بذلك، وزيَّنَتْها بالثياب والحلي، وأخذت عليَّ المواثيق بألا أخونها، فذهبْت الى رأس بئر فنظرتُ في البئر، ففطَنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر، فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول: يا أبت إيش تريد أن تفعل بي؟ فرحمتُها، ثم نظرت في البئر فدخلت عليَّ الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لا تُضيِّع أمانةَ أمي! فجعلتُ مرة أنظر في البئر ومرة أنظر إليها فأرحمَها، حتى غلبني الشيطان فأخذتُها وألقيتُها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبتِ قتلتني؟ ومكثتُ هناك حتى انقطع صوتُها فرجعت. فبكى رسول الله (ص) وأصحابه، وقال: لو أُمرتُ أن أعاقب أحداً بما فعل في الجاهلية لعاقبْـتُك).
ـ مثل هذه النماذج استطاع النبي(ص) أن يُدخل عليها التغيير، ويُخرجها من القسوة إلى الرحمة، بل ربّاهم على أن يكونوا مُرهفي الحس تجاه هذه المسألة.. ومن أمثلة ذلك قول النبي(ص) في غزوة خيبر حين مرّ بلال بصفية وابنة عم لها على قتلى اليهود: (يا بلال، أنُزعت منك الرحمة حتى تمر بامرأتين على قتلاهما؟).
ـ ولم يقتصر الأمر على الإنسان، ففي خبر أن النبي(ص) قال: (بيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِن الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ).
ـ وقد ورث أهل بيت النبي(ع) هذه الروحية الرحيمة عنه(ص)، فكانوا يتألّمون لحاجة الناس، فما يهنأ لهم الفراش ليلاً، ولم يُبعدهم التهجّد في السحر عن البحث عن المحتاجين، يحملون الزاد إليهم على ظهورهم، متستّرين بالظلمة، متنكّرين باللثامٍ، ليبقى العطاء خالصاً لوجه الله.. هكذا روي عن علي والسجاد والكاظم(ع).
ـ وما كان المجتبى ليهنأ بطعامه حتى يدعو الفقراء إلى مائدته يُطعمهم بيديه.. وللحسين(ع) موقف عظيم قُبيل كربلاء يذكّرنا برحمة جده(ص) حين أمر بسقي جيش العدو، ثم وقف يسقيهم وخيولَهم بنفسه!
ـ روى المزّي في (تهذيب الكمال) في صفة الإمام الكاظم(ع): (وكَانَ يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه، فيبعث إليه بصُرّةٍ فيها ألفُ دينار، وكَانَ يَصِرُّ الصُّرر ثلاث مائة دينار، وأربع مائة دينار، ومئتي دينار، ثم يُقسمها بالمدينة. وكَانَ مثلٌ صررُ مُوسَى بن جعفر) يُضرب بها المثل (إِذَا جاءت الإنسان الصرة، فقد استغنى) .
ـ ولم يقتصر الأمر على الأئمة من آل البيت(ع)، بل ورِثت ذريتُه هذه الرحمة، ففي مقاتل الطالبيين أن محمد ابن إبراهيم طباطبا الحسني (بينا هو في بعض الأيام يمشي في بعض طريق الكوفة إذ نظر إلى عجوز تَتْبعُ أحمالَ الرُّطب، فتلقُط ما يسقط منها، فتجمعه في كساءٍ عليها رث، فسألها عما تصنع بذلك. فقالت: إني امرأةٌ لا رجُل لي يقوم بمؤنتي، ولي بنات لا يَعُدن على أنفسهن بشئ، فأنا أتتبع هذا من الطريق واتقوَّتُه أنا ووُلدي! فبكى بكاء شديداً وقال: أنت ـ والله ـ وأشباهك تُخرجوني غداً حتى يُسفَك دمي) . وفعلاً خرج ثائراً على المأمون العباسي ومات شهيداً.
ـ هذه الرحمة التي زرعها النبي(ص) في النفوس، اقتلعها الأمويون والخوارج قلعاً، فمُسخت شخصية المسلمين.
ـ قال الشالجي في مقدمة (موسوعة العذاب) المكوّنة من سبعة أجزاء واشتملت على أبشع صور التعذيب التي جرت في العهد الأموي فما بعد مما لا يمكن أن يتخيّله إنسان لولا أنها مثبتة في مصادر التاريخ، قال: (ولما تسلّط الأمويون على الحكم، تغيّر الأمر عما كان عليه في عهد الخلفاء الراشدين، فظلم بعضُهم الناس، وسلّطوا عليهم عمالاً من الظالمين، وأول مَن سُلِّط على الناس من هؤلاء الظالمين زيادُ بن أبيه، فعذّب الناس ودفنهم وهم أحياء، وبنى عليهم الحيطان، وقطع أطراف النساء) ثم تحدث عن العباسيين الذين: (تجاوزوا الأحياء منهم إلى الأموات، فنبشوا قبورهم وأخرجوا رِممَهم، ضربوها بالسياط وأحرقوها بالنار!).
ـ واليوم نشهدُ جرائمَ ذُريةِ أولئك القوم من التكفيريين الذين انتُزعت الرحمةُ من قلوبهم، فأشبهوهم في فِعالِهم الإرهابيّة.. ومَن شابه أباه فما ظَلم.. وإن تعجَب لهؤلاء، فعجباً للمغترّين بهم، ممن يحملون في قلوبهم المودّةَ لهم، والتبريرَ لوحشيَّتِهم، والشرعنةَ لأفعالَهم الخسيسة، كيف مُسخَت في عقولِهم ونفوسِهم مفاهيمُ الرحمة في الإسلام، وصورُ الرأفة في شخصية النبي(ص)، وهم ويكرّرون في الصلاة: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وقد روي عن النبي(ص) أنه قال: (مَن أحَبَّ قَوماً حُشِرَ مَعَهُم، ومَن أحَبَّ عَمَلَ قَومٍ اُشرِكَ في عَمَلِهِم)! ولكنه التعصب الأعمى الذي يملأ القلوب حقداً، ويُعمي البصيرة عن الحقيقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم إذ صار الإسلامُ دينُ الرحمة قرينَ الإرهاب في عقولِ الناس. ومن هنا فإن من مسؤوليتنا أن نقدّم هذه الصور المذهلة في مدرسة أهل البيت(ع) لنملأ الفراغ الذي خلّفته تلك الممارسات الوحشية في فهم الإسلام، ولنُخرس الألسنة التي استطالت بالإساءة إليها من خلال ممارساتنا اللامسؤولة وانسياقنا وراء الطرح الخرافي والاستفزازي الذي لم يَعُد علينا وعلى مدرسة أهل البيت إلا بالسوء.