خطبة الجمعة 5 رجب 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: لكل قوم هاد


ـ روى العياشي في تفسيره عن أبي جعفر الباقر(ع) في قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾[الرعد:2] قال(ع): (عليٌّ الهادي، ومنَّا الهادي. فقلت: فأنتَ جعلتُ فداك الهادي؟ قال(ع): صدقت. إنَّ القرآن حيٌّ لا يموت، والآية حيَّةٌ لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين).
ـ لو عدنا إلى الآية سنجدها كالتالي: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾. فكيف نفهم الآية؟
ـ كان الكفار ـ وبإلحاح مستمر ـ يطالبون النبي(ص) بالمعجزة المادية، أسوةً بمن سبقه من الأنبياء، ممن عرفوا قصصهم، وحكاه القرآن في أكثر من موضع.. فلماذا لا تكون لك معجزة مادية حتى نؤمن بك؟
ـ والجواب: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)[الإسراء:59] وعندما كذّبوا بها نزل عليهم العذاب وقَضي عليهم، فالله لم يستجب لإلحاحكم رحمةً بكم، لأنه يريد هدايتكم لا القضاء عليكم.
ـ ثانياً، الآية تخبرنا أن تحقيق المعاجز ليس بيد النبي(ص)، بل هو أمر إلهي، أما مسؤولية النبي فالإنذار والتبليغ والدعوة والهداية، وليس الاستجابة لطلبات الناس التعجيزية.
ـ ثالثاً، فإن إرسال الهداة إلى الناس ليس بالأمر الجديد، وأنت ـ يا محمد ـ بكونك هادياً لهم لست بدعاً من الرسل، وهؤلاء الهداة قد يكونون من الأنبياء أو ممن سواهم من الأوصياء والعلماء كما يحدث في زمن الفترة.
ـ وبما أن الناس بعد وفاة النبي سيحتاجون إلى هذا الهادي، فقد أخبرهم به كما روى ذلك الطبري وآخرون عن ابن عباس قال: (لما نـزلت: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ وضع (ص) يده على صدره فقال: أنا المنذر، ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ وأومأ بيده إلى منكب عليّ, فقال: أنت الهادي يا عليّ, بك يهتدي المهتدون بَعْدي).
ـ وهذا ما دفع السائل ليستفسر عن المراد من قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ لا سيما بلحاظ أن البعض لم يكن يحلو لهم أن يكون علياً(ع) هو المقصود، فوجّهوا الآية توجيهاً غريباً فقالوا أن المراد من الهادي هنا هو الله سبحانه كما هو المروي عن مجاهد والضحاك. وواضح أن هذا المعنى لا يتناسب والآية.
ـ فأكّد الإمام الباقر(ع) ما روي عن النبي(ص) في كون علي(ع) هو المصداق الأول بعد رسول الله(ص).
ـ ثم فتح الباب لبيان أن هذا الأمر لا يتوقف عند علي(ع)، بل يستمر في العترة من أهل البيت حيث قال: (ومنَّا الهادي)، وهو ما دفع السائل من جديد ليستفسر عن الهادي في زمانه قائلاً: (فأنتَ جعلتُ فداك الهادي؟) فكان الجواب مثبتاً.
ـ وقدّم له الإمام(ع) بعد ذلك تُحفةً علميةً: (إنَّ القرآن حيٌّ لا يموت، والآيةُ حيَّةٌ لا تموت. فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين).
ـ فالقرآن كتابُ هدايةٍ وليس كتاباً تاريخياً يهدف إلى سرد بعض الأحداث، وبمثل هذه التطبيقات العملية نُبقي القرآن هادياً لنا وفاعلاً في حياتنا.. وهذا ما يُعرف بعنوان قاعدة الجري.
ـ وقد كان الإمام الباقر(ع) حريصاً على تقديم نماذج من هذه القاعدة، ومن ذلك ما رواه العياشي في تفسيره عن أبي بصير قال: (سألته عن قول الله: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾[الأنعام:82]، قال (ع): نعوذ بالله يا أبا بصير أن تكون ممن لبس إيمانه بظلم. ثم قال: أولئك الخوارج وأصحابُهم).
ـ من جديد يستفيد الإمام من آية تتحدث عن دعوة النبي إبراهيم(ع) لقومه لينطلق منها في تطبيقين عمليين:
ـ الأول يخص السائل فيوجِّهُه توجيهاً إيمانياً سلوكياً كي لا يكون ممن خلط إيمانه بظلم، لكل ما للظلم من مصاديق على مستوى الإيمان كالشرك وسوء الظن بالله.. وعلى مستوى العمل كالتعدي على حقوق الناس والغش والاختلاس والرشوة والحكم بالباطل والفتنة وقتل النفس المحترمة إلخ.
ـ الثاني يخص تقديم نموذج عملي حي كان يعايشه الإمام والسائل في ذلك الزمان، لقوم خلطوا إيمانَهم بظلم،
وهو ما أكده الإمام علي(ع) من قبل حين سُئل عن حقيقة الخوارج: (أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً؛ قيل: فما هم؟ قال: إخوانُنا بَغَوا علينا).
ـ وأما خوارج العصر من التكفيريين فقد تجاوزوا خوارج ذلك الزمان بمراحل، بل قدّموا نموذجاً جديداً هو مزيج من الفكر الوضعي الإجرامي المتعصب، مع قراءةٍ سلفيةٍ متطرّفة للفتاوى والنصوص الدينية. وإلا كيف نفسّر هذا التمازج البعثي التكفيري في بوتقة واحدة تمثّل خوارج العصر؟ فحزب البعث حزب علماني قومي إقصائي قام على الإرهاب والأسلوب المخابراتي بأبشع صوره، وفي السنين الأخيرة من حكمه في العراق قام المقبور صدام بإلباس حزبه العِمّة، فتبلورت من خلال ذلك مجموعات بعثية مخابراتية سلفية وصوفية وشيعية، ثم ظهرت بعد سقوط النظام بصورة مجاميع دينية تكفيرية أو متطرفة أو تخريبية. في كل يوم تتكشف وثائق جديدة، وقد نشرت صحيفة ديرشبيغل الألمانية مؤخراً تقريراً مثيراً ومفصّلاً عن ضابط في مخابرات صدام كان العقل المدبر وراء سيطرة التكفيريين على شمال سوريا، وتحوَّل بقدرة قادر إلى حجي فلان، وكان من المرشح أن يكون أميرَ المؤمنين لولا هلاكه. ومثلُه عزت الدوري الذي كان يوماً نائباً لصدام، ثم غدا بعد سقوط النظام قائد (جيش رجال الطريقة النقشبندية) وهي من الطرق الصوفية، وقادة عملياته الميدانية هم من ضباط الجيش العراقي السابق، وهو ما ساهم في احتلال الموصل وصلاح الدين في يومين بالتعاون مع التكفيريين. وفي الوسط الشيعي تظهر من حين إلى آخر مجاميع من ذات المنبع تدّعي تمثيل الإمام المهدي(ع)، وتلحس عقول البسطاء بادعاءات وهمية، وتبث أفكاراً هدّامة، وتمارس من حين إلى آخر أعمالاً إرهابية باسم التمهيد للظهور. وما مصداق هؤلاء جميعاً إلا كما قال الله سبحانه: (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ).