خطبة الجمعة 28/جمادى2/ 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: شفاعة المسيح


(وَإِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّـهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، قَالَ اللَّـهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[المائدة: 116-119].
ـ في الآيات السابقة رسائل تريد إيصالها من خلال ذلك الحوار، وأذكر منها رسالتين:
1) قد نفهم اتخاذ عيسى كإله من خلال عقيدة الثالوث، ولكن ألوهية السيدة مريم، وكذلك اتخاذهما إلهين من دون الله، فهذا ما نحتاج إلى فهمه، لأن النصارى لا ينفون ألوهية الله سبحانه وتعالى.
ـ في المنطق القرآني ليس بالضرورة أن يُعلن الإنسان ألوهية شيء ما (سواء أكان نبياً أو حاكماً أو شيطاناً أوجهةً اعتباريةً كالحزب أو غير ذلك) كي يصبح إلهاً بالنسبة إليه، بل يكفي أن يبلغ هذا الشيء عنده مستوىً من الأهمية والإنسحاق فيه والطاعة له بحيث ينسى الله من خلاله، ويصبح بالنسبة إليه كل شيء، ويقدّم إرادته على إرادة الله: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)[الجاثية:23]، فهل يعلِن أحدنا أنه قد اتخذ هواه إلهاً له؟
ـ وهذه نقطة حساسة جداً، فإن طاعة السيد المسيح(ع) كانت واجبة على الناس في حياته، وحب السيد المسيح كان لازماً في أوامره ونواهيه وكان هو أولى بالمؤمنين به من أنفسهم حال حياته ولكن كل هذا لا أصالة له.
ـ فالأصل في المسألة طاعةُ الله وحبُ الله والانسحاقُ في ذات الله، وأما طاعةُ السيد المسيح وحبُّه وولايتُه فتأتي كفرع عن تلك، وتابعة لها.. ولو اعتقد الإنسان أصالتها فإنها تتحوّل إلى نوع من التأليه!
ـ وقد يتطور هذا التأليه الخفي للنبي ـ حين يُستغرَق فيها ـ إلى إلغاء عملي لألوهية الله، دون أن يعي الإنسان ذلك.
ـ وما يقال بالنسبة إلى المؤمنين بالسيد المسيح يقال بالنسبة إلى المسلمين في نظرتهم إلى النبي أو الإمام أو الصحابي أو شيخ الطريقة أو غير ذلك. فلننتبه إلى مشاعرنا ودعائنا وتوجّهنا، وإلا كررنا ذات الخطأ.
2) في خواتيم الحوار الذي نقلته الآيات يقول السيد المسيح(ع): (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وفي طيّات هذا التعبير طلب وتشفّع.
ـ وكأنه(ع) يقول: يا رب، إن هؤلاء قد آمنوا بي، ولكنهم أخطؤوا تقييم الأمور فغالوا واستغرقوا في ذاتي ونسوا ألوهيتك، ومن العدل أن تعذبهم، لأنهم خالفوا قانون عبوديتهم لك، ولكن فلتسبق رحمتُك عذابَك، ولتعفُ عنهم.
ـ فماذا كان الرد الإلهي؟ (قَالَ اللَّـهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) فلا يكفي الادّعاء، ولا يكفي العنوان الذي يحملونه، ولا تكفي المحبة لك في قلوبهم، ولا يكفي الإيمان المجرّد، بل لابد أن يُصدِّقَ فعلُهم إيمانَهم ومشاعرَهم، إلتزاماً بأوامر الله ونواهيه، وبالتقرب إليه والإخلاص له.
ـ ولذا فإن الذين يتصوّرون أن الحب المجرد والإيمان الساذج سيخلّصهم من عسير الحساب والعقاب على معاصيهم أملاً في شفاعة الشافعين مخطؤون، وما ذلك إلا (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّـهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ)[النور:39].
ـ أيحسب آكل مال اليتيم أن بزيارته لمرقد الإمام قد ضمن شفاعته، والله سبحانه يقول: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ)؟ فهل يرتضيه الله؟ وهل يشفع الإمام لمن لا يرتضيه الله؟ يجيب القرآن: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[النساء:10]. وعلى هذا فقس سائر المعاصي.
ـ وإذا كان من غير الإنصاف ـ في حسابات الدنيا ـ أن يتساوى الطالبُ المستغرقُ في اللهو، المهملُ لواجباته، الذي لم ترتقِ نتائجُ إختباراتِه إلى المستوى المطلوب، مع الطالبِ المجتهدِ المجدِّ، لمجرد أنه يحملُ في قلبه حباً للمعلم، أو لأنه ابنُ صديقٍ له، أو لأنَّ قريباً للمعلم قد توسّط له وقُبِلَت وِساطتُه وشفاعتُه.. فكيف بمحكمة العدل الإلهي؟ (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا، يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) [طه:108-112] وهذه هي حقيقة الشفاعة في الآخرة، فهي لا تُمثِّلُ اعتراضاً على حكم الله، ولا تدخّلاً في شأن الله، ولا استباقاً لإرادة الله، بل هي منزلةٌ وكرامةٌ للشفيع بعد أنْ يأذنَ اللهُ من أجل أن يرتقي المؤمنُ الصالحُ في مرتبته، أو ليُتجاوزَ عن ذنبٍ صغير ارتكبه، أو خطأٍ جَهِلَه ولم يُصرّ عليه.. وقد خاب من ترك الانتهال من واحات الطاعة، وأكَلَ الحرام وارتكبَ الفواحش وانتهكَ الحُرُمات، ثم منّى نفسه بالجنة أملاً في أوهام السراب.