خطبة الجمعة 21/جمادى2/ 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: شبابنا في مواجهة صراع النماذج


ـ نبارك لكم ذكرى مولد سيدة نساء العالمين مولاتنا فاطمة الزهراء(ع). وبهذه المناسبة أفتتح خطبتي هذه بقراءة جانب مما جاء في خطبتها المعروفة بالخطبة الفدكية، قالت(ع): (وكنتم) قبل الهداية إلى الإسلام (على شفا حفرة من النار، مِذْقَةَ الشارب) أذلاء ضعفاء بحيث لو كنتم شراباً لما احتاج الأمر أكثر من رشفة ليتم القضاء عليكم (ونُهزةَ الطامع) كنتم قليلين أذلاء تمثّلون فرصة جيدة لكل من يطمع فيكم فيتخطفكم بسهولة (وقَبسةَ العجلان) أي يمكن إذلالكم واستغلالكم بكل سرعة وسهولة تماماً كالمستعجل الذي يريد أن يأخذ شُعلة من نار، فينالها بكل سهولة (وموطئ الأقدام، تشربون الطَّرَق) ماء السماء الذي تبول فيه الإبل وتَبعَر (وتقتاتون الورق، أذلة خاسئين صاغرين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمدٍ(ص) بعد اللّتيا والتي، وبعد أن مُني ببهم الرجال) شجعانهم (وذِئبان العرب) لصوصهم وصعاليكهم (ومردة أهل الكتاب). في هذا المقطع قدّمت الزهراء(ع) في مقام إلقاء الحُجة جانباً من النموذج الناجح الذي حققه الإسلام من خلال النبي(ص) على المستوى الأمني والاقتصادي والاجتماعي.
ـ فالاحتجاج على الآخر عند الاختلاف أو النزاع لا يقتصر على الجانب الفكري فقط، كأن تقول لهم: ما هي نظريتكم الاقتصادية الكفيلة بالقضاء على الفقر في المجتمع؟ أو ما هي رؤيتكم لعلاج تفاقم حالات الطلاق؟ أو كيف تنظرون إلى حرية الكلمة؟ أو ما قولكم في نظرية التطور الداروينية؟ أو ما فلسفة الحجاب للمرأة؟
ـ بل الأمر ـ في مقام الاحتجاج ـ يتجاوز ذلك إلى الجانب العملي الواقعي والميداني: أين هو النموذج في كل مفردة من تلك المفردات، سواء على مستوى الدولة أو الحزب أو الفرد.. وهذه نقطة مهمة جداً.
ـ اليوم من ارتدادات جرائم التكفيريين أن بات الشاب المسلم يُسأل ـ وبغرض جرّه إلى الإلحاد أو اللادينية ـ أين هو النموذج الإسلامي على مستوى الدولة أو الحزب أو الفرد والذي يثبت مصداقية الإسلام في أطروحاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية وغير ذلك؟
ـ يقولون لشبابنا: لا يكفي أن تتغنوا بمجموعة من النظريات الأخلاقية والتشريعية والروحية، بل قدِّموا لنا النموذج الصالح المتحقق على الأرض ولو على مستوى الأفراد.
ـ وتبدأ هنا سلسلة من المقارنات.. على مستوى الدول: العالم ينفق حوالي 536 مليار دولار على مجالات البحث العلمي، وتنفق اليابان لوحدها 130 مليار دولار.. أما العرب فإنفاقهم لا يتجاوز535 مليون دولار.
ـ الكيان الصهيوني احتل المرتبة الأولى عالمياً من حيث نصيب الفرد من الإنفاق على البحث العلمي. الدول العربية تنفق أقل من 15 دولاراً على الفرد في مجال البحث العلمي، بينما ينفق الكيان الصهيوني أكثر من 1270 دولاراً على كل فرد.
ـ على مستوى الأحزاب: ماذا قدمت الأحزاب الإسلامية السنية والشيعية في تجربة الحكم سوى تكرار الأخطاء التي وقعت فيها حكومات سبقتها ولم تكن على رأسها أحزاب إسلامية، إن لم تكن تجربتها أسوأ من سابقاتها؟
ـ على مستوى الأفراد: أين هم الأفراد الذين نجح الإسلام في صياغة شخصياتهم ليكونوا إنسانيين في مشاعرهم وفي سلوكياتهم وفي عطائهم وفي تفاعلهم مع الآخرين؟
ـ أليست شخصية المسلم المتدين اليوم هي شخصية الإنسان القلق والمتوتر والمنغلق على نفسه.. الإنسان العدواني والفوضوي وغير المنضبط بالقوانين؟ الإنسان المستهلك وغير المنتج ولا المبدع؟
ـ بمثل هذه المقارنات على مستوى النماذج الواقعية تتحطم صورة التدين عند مجاميع من شبابنا وتدفعهم إلى الإلحاد أو اللادينية.
ـ وإذا كنا نقول: لا تحمّلونا مسؤولية ما تفعله الحكومات والأحزاب.. إلا أننا لا نملك أن نقول أن لا دخل لنا بما نفعله نحن كأفراد.. فأين هو نموذج الإنسان المسلم الصالح الذي نقدمه لأبنائنا وللأجيال؟
ـ أنا لا أتكلم على مستوى الصلاة والصيام والحج، ولا حتى الصدقة، بل أتكلم على مستوى القيم:
ـ قيمة العلم عندي أنا، ولو كان مَن حولي لا يهتمون بالعلم.
ـ قيمة الوقت عندي أنا واحترامي للوقت، وإن كان مَن حولي يعتبرون الوقت ألعوبةً بأيديهم.
ـ قيمة النظام عندي أنا والتزامي به، وإن كان مَن حولي يعيشون قمة الفوضى في كل شئ.
ـ قيمة التفكير عندي أنا، وإن كان مَن حولي أتباعَ كل ناعق.
ـ قيمة الحوار وتقبّل الاختلاف عندي أنا، وإن كان مَن حولي ضيّقي الأفق لا يفهمون حقيقة التنوع في الحياة.
ـ هذا كله ـ وغيره ـ بأيدينا نحن ومسؤوليتنا نحن أن نحققه لنقدّم من خلاله نماذج حية للإنسان الذي جاء الإسلام ليخرجه من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن التخلف إلى الحضارة، ومن الفقر إلى الرفاه، ومن التمزق إلى الوحدة، ومن الذل إلى العزة.. دون أن ننتظر ماذا يفعل الآخرون.
ـ إن المقارنات التي تُعقَد في أجواء ما يُعرَف اليوم بصراع النماذج الذي أعقب صراع الأفكار والنظريات يمثّل تحدياً كبيراً يواجهنا كمسلمين غارقين في صراعات طائفية نجترُّ من خلالها أحداث التاريخ، وننساق وراء حماقات دعاة الفضائيات، وإثارات الإعلاميين المأجورين، ومخططات رجال الاستخبارات، لتتحول إلى منابر نكفّر بها بعضنا البعض، وإلى رصاصات نمزّق بها أجساد بعضنا البعض، وإلى صواريخ نفجّر بها جامعاتنا ومدارسنا المتهالكة، وإلى انتحاريين مهووسين بتحويل الأطفال والنساء إلى أشلاء، وإلى ساديين يستلذون بنحيب الأرامل ودموع الثكالى ومشاهد النار والدمار.. وإن كان نتعذّر بأن وضع الحكومات والأحزاب خارج نطاق اختصاصنا ومسؤوليتنا، فإن وضعنا كأفراد هو مِلكُنا، وبأيدينا أن نغيّره، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.