خطبة الجمعة 14/جمادى2/ 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: اليمن.. التاريخ والحاضر


ـ لليمن في عمق التاريخ البشري حضور ممتد من خلال الحضارات التي نشأت فيها، ومن خلال تفاعلها مع سائر الحضارات التي شهدتها البشرية.
ـ وفي القرآن حديث عن حضارة قامت على جزء من أرض اليمن، بعد نوح(ع)، حيث الأحقاف.. الكثبان الرملية التي كانت في وقت ما أرضاً غنية بالمراعي والزراعة وعيون الماء: (أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الشعراء:133-134]، وفي وصف أهلها قال: (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)[الأعراف:69]، وفي عمرانهم ومشاريعهم قال: (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ)[الفجر:7] وعن نشاطهم وأفعالهم قال: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء:128-130].
ـ ثم أعقبتها حضارة أخرى بالقرب منها حيث قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)[سبأ:15]. وهذه الصفات التي تمتعت بها هذه الأرض هي التي أكسبتها منذ القِدَم عند أهلها العرب اسم (اليمَن)، من اليُمن والبركة.. وعند الرومان واليونان اسم أرابيا فيليكس، أي العرب السعيد.
ـ وتمضي القرون وتتبدل الأحوال حتى إذا بعث الله نبينا(ص) وفتح مكة، أرسل علياً(ع) إلى اليمن قبل حجة الوداع، فقد روى البخاري في صحيحه عن البراء قال: (بعثنا رسول الله (ص) مع خالد بن الوليد إلى اليمن.
قال: ثم بعث علياً بعد ذلك مكانه فقال: مُر أصحابَ خالد مَن شاء منهم أن يُعقِّب معك فليُعقِّب) أي فليكمل المهمة معك (ومَن شاء فليُقبِل. فكنتُ فيمن عَقَّب معه) قال ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري: (أورد البخاري هذا الحديث مختصراً) ثم ذكر التتمة، قال: (قال البراء: فكنت ممن عقَّب معه، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، فصلى بنا عليٌّ وصفَّنا صفاً واحداً، ثم تقدّم بين أيدينا فقرأ عليهم كتاب رسول الله(ص)، فأسلَمت همْدانُ جميعاً) وكان هذا في صنعاء (فكتب عليٌّ إلى رسول الله (ص) بإسلامهم، فلما قرأ الكتاب خرَّ ساجداً، ثم رفع رأسه وقال: السلام على همْدان).
ـ ومنذ تلك اللحظة غدا لأهل اليمن الحضورُ البارز في التاريخ الإسلامي لاسيما في عصر الفتوحات، حيث كان يُعوَّل عليهم كثيراً لما عُرِفوا به من البأس الشديد في القتال.
ـ ومع تأسيس الكوفة كمدينة عسكرية تنطلق منها جيوش المسلمين، انتقلت القبائل اليمنية إليها، غسان وبجيلة وخثعم وكندة وحضرموت والأزد وحمير وهمدان والنخع، فتبلور حضورهم الميداني كمساهمين في بناء التاريخ الإسلامي بشكل أكثر وضوحاً.
ـ ويرتبط اسم اليمن في بعض الأحاديث النبوية وأحاديث آل البيت والصحابة بالثناء الجميل، وفي البعض الآخر بالبشارات بظهور المهدي(ع)، ليكون جزءً من تلك الحركة المباركة التي ستملأ الأرض قسطاً وعدلاً في آخر الزمان.
ـ ويا للأسى أن لا يلف اليمن السعيد اليوم إلا المزيد من الحزن والموت والحروب والصراعات القبلية والفقر إذ تُصنَّف اليمن بأنها من أشدّ الدول النامية ذات الاقتصاد المتدهور، وأنها تحتل المرتبة الأخيرة بين الدول العربية من حيث دخل الفرد، حيث لا يتجاوز الدولار الواحد في اليوم! إن ما آل إليه حال اليمن اليوم لأمر مؤسف، ونتطلع إلى أن تعي الأطراف المتصارعة في اليمن، وعلى اليمن، أن الحرب لا تأتي إلا بالويلات والدمار والتخلف والمزيد من الصراعات القادمة، وهي وإن أفرزت نصراً لطرف على الصعيد العسكري، إلا أن الحقيقة أن الجميع سيكون من الخاسرين، لأن كل حرب ليست سوى جولة في حلقات متواصلة من الصراع الدامي الذي ستَبقَى الأمة الإسلامية والعربية تنزف من خلاله المزيد من الدماء، ليتربع الكيان الصهيوني على عرش الطمأنينة والأمن، وليطل هذا الكيان الغاصب باستبكاره المعهود على ما حولَه مِن دول لم تعد سوى كيانات تنهش فيما تبقّى من مقدّراتها، وتستنزف ما تخلَّف من خيراتها.
هذا أولاً، وأما ثانياً، فإن الجميع على علم بأن الصراع في اليمن وعلى اليمن ما هو إلا صراع سياسي أمني، وما التداخلات المذهبية التي تمتزج بها الصورة إلا الوسيلة التي تحاول الأطراف المتصارعة من خلالها أن تكسب التأييد والشرعية والامتداد. إن على الجميع ـ ولاسيما وسائل الإعلام التي لطالما تحدثت عن أخطار الطائفية والتطرف ـ أن يتذكروا أن الضرب على الوتر الطائفي سيرتد على الجميع، ونار فتنته لن ترحم أحداً، لأن الحرب متى ما أُلبِسَت ثيابَ الدينِ والمذهب أصبحت مقدسة، وحينها تَهيج النفوس، وتَعمى العيون، ويَدخل في أتونها حتى العقلاء.