خطبة الجمعة 7/جمادى2/ 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: الأمة الوسط 2


(وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة:143].
ـ الرأي الثاني: يعتمد ـ بالإضافة إلى المعنى اللغوي للكلمة ـ على إرجاعنا إلى السياق الذي جاءت فيه الآية، وهذه نقطة مهمة وحساسة في فهم الآيات، وكثيراً ما يكون المعنى غامضاً أو نخطئ في فهم الآية بسبب عزلها أو اقتطاع عبارة منها، بينما كثيراً ما يختلف الأمر لو التزمنا بفهم الآية ضمن السياق.
ـ فلو رجعنا إلى السياق الذي جاءت فيه الآية السابقة فيما سبقها من آيات وفيما تلاها، فسنجد أن الحديث يدور حول قضية القِبلة، فقد كان المسلمون يتوجهون في صلواتهم منذ العهد المكي نحو المسجد الأقصى، الأمر الذي دفع اليهود في المدينة إلى التشكيك في أصالة الإسلام، وأن النبي (ابتدع) ديناً من خلال تعاليم اليهود، الأمر الذي هزّ ثقة عدد من المسلمين بدينهم، وأثار شبهة فكرية عميقة، لاسيما بلحاظ نظرة الإعجاب التي كانت تتملكهم تجاه أهل كتابٍ لديهم الكثير من قصص الماضين وتفاصيل الأخبار.
ـ ثم جاء نَسْخ الحكم بتغيير القبلة، ليندفع اليهود في عملية تشكيك أخرى هزّت الثقة مجدداً بالإسلام، لاسيما وأنها التجربة الأولى للمسلمين في عملية النسخ.. حيث قال لهم اليهود: كيف يمكن أن يبدّل الله العليم الحكيم تعاليمه وتشريعاته؟ فالثبات صفة التعاليم الإلهية، والتغير صفة التعاليم الوضعية من قبل البشر.
ـ ولذا جاءت الآيات 135ـ150، لتعالج هذه المسألة بالتفصيل، من أجل إعادة الثقة في نفوس المسلمين، لئلا ينهاروا أمام عمليات التضليل والتشكيك، ولتقول للمسلمين إن الله أراد لكم أن تكونوا الأمة التي تقود سائر الناس إلى قيم الإسلام ومبادئه وأهدافه الكبرى.. وهل يمكن لمن اهتزت ثقته بمبادئه أن يقود الآخرين إليها؟
ـ هذا هو معنى جعلهم أمة وسطاً، أي أمة قائدة ـ لأنها في المركز ـ لا أمة تابعة.. ويأتي الرسول الأكرم(ص) ليكون في وسط ذلك المركز، باعتباره القائد الأعلى نحو الهداية. فلا تفقدوا الثقة في أنفسكم، ولا تسمحوا لهم بأن يهزّوا قناعاتكم في نبيكم ورسالتكم.
ـ وهذا الموقع القيادي الذي اختير لكم يحمّلكم مسؤولية الموقع، فالقائد في ضمن عمله القيادي يراقب مَن حوله بدقة وتتبع، في أفكارهم وأعمالهم، لأنهم يدخلون في ضمن مسؤوليته. وهذا معنى شهادتكم كما جاء في الآية.
ـ تماماً كما أن رسول الله (ص) في قيادته للأمة يتحمل مسؤولية الموقع، ويراقبكم، وبذا يكون الشاهد عليكم.
ـ وسواء فسّرنا الآية وفق الرؤية الأولى أو الثانية، فإنني أود أن أعلّق على أمرين:
الأول: أننا اليوم نواجه حملة إعلامية وفكرية متواصلة، مسوّغها الأول جرائم التكفيريين، وأداتها الإعلام المفتوح، وأرضيّتها الخواء والسطحية الفكرية لدى المسلمين، ووجهتها الأولى والرئيسية عقولُ شبابنا.
ـ هذه الحملة المحمومة هدفها الرئيسي هزّ ثقة شبابنا بالإسلام في قواعده الإيمانية، وفي تشريعاته الحياتية، وفي تناغمه مع العصر على مستوى قضايا الحقوق والمرأة والحرية ونظام العقوبات.. تماماً كما سعى يهود المدينة لتحقيق ذات الهدف فانبرى لهم القرآن مفنّداً أباطيلَهم وموجّهاً أصابع الاتهام إلى انحرافاتهم عن دين الله، ومعيداً الثقة لنفوس المسلمين بأنفسهم وبرسالتهم وبقيادتهم، بل وذكَّرهم بأنّ الله قد اختارهم ليكونوا في الموقع القيادي أو بما يمثّله دينهم من اتّزان في أسسه الإيمانية والفكرية والتشريعية والروحية والأخلاقية.
ـ وكما عمل القرآن على إعادة الثقة إلى المسلمين بأنفسهم ودينهم، ووضَعَهم في المسار الصحيح، فإن مسؤوليتنا اليوم كأولياء أمور ومعلّمين ومبلّغين وأصدقاء ومستعملي وسائل التواصل الاجتماعي أن نعمل في ذات الاتجاه تحت شعار: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ).
الأمر الثاني: فإنه يتم هذه الأيام إعداد وثيقة (المحاور الاستراتيجية العملية لنشر الوسطية والاعتدال ومواجهة التطرف والعنف في ظل المتغيرات المحيطة بالمجتمع الكويتي) وقد اطلعت على مسوَّدة الوثيقة التي جاءت في أربعين صفحة تحمل الكثير من التفاصيل حول الأسباب والتحديات وأساليب المعالجة، وتمثّل جهداً تنظيرياً كبيراً.
ـ ولكن مسوّدة الوثيقة هذه من وجهة نظري جهد قاصر، إذ لم أجدها تذكر ولو لمرة واحدة أن واقع التطرف والأعمال الإرهابية فيما يحيط بنا يعمل في اتجاهين، الأول له علاقة بتكفير الحكومات ومواجهتها بالعنف والسعي لإسقاطها واستبدالها بحكومات إرهابية تحت مسمى الخلافة الإسلامية، وهو ما تشعر أن المسودة تعالجه بصورة غير مباشرة، والاتجاه الآخر له علاقة بالنظرة المتطرفة تجاه الأفراد والجماعات الذين يمثّلون الآخر المختلف مذهبياً أو دينياً أو فكرياً وتكفيرهم والسعي لمحوهم من الوجود، وهو ما أهملته المسوّدة بشكل واضح.. فلا ذِكر لعناوين العنصرية والتمييز على أساس العرق والقومية واللون والقبيلة والدين والمذهب، ولا معالجة إلا على أساس عناوين فضفاضة هلامية من قبيل المغالاة والتطرف والوسطية وتوجيه الشباب وفق أحكام الشريعة الصحيحة، وهي كما لا يخفى تحتمل أكثر من معنى، وتسمح للشيطان أن يكمن في كثير من تفاصيلها، ونأمل ألا تتحول المسوّدة بصورتها القاصرة هذه إلى وثيقة معتمَدة دون أن تعالج الخلل المذكور، فهل يمكن لمن يؤمن أنه وحده في الجنة ويمثّل الحق الكامل وسائر الناس لا يستحقون الحياة وليس لهم في الآخرة إلا النار أن يحمل روحيةً تمكّنه أن يبني إنساناً متسامحاً وسطياً؟