خطبة الجمعة 15/جمادى1/ 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: حرية الفكر


(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[الإسراء:36].
(وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)[يونس:36].
ـ عندما تحدثت في الأسبوع الماضي عن قدرة العقل البشري على الخلاقية والإبداع تبادر سؤال إلى ذهن بعض الإخوة: مادام الأمر كذلك، فهل هذا يسمح لنا بالقول أن الله يريد للإنسان أن يكون حراً في تفكيره ليكوّن قناعاته حول كل شيء بذاته؟ أم لهذه الحرية قيود؟ السؤال مهم وحساس جداً، ونحتاج إلى مقدمات:
ـ أولاً: لابد من القول أن الإسلام أراد للإنسان أن يفكّر بنفسه، ليصل إلى قناعاته، ولذا ذم تقليد الآباء والأجداد: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)[المائدة:104] وقد تكررت هذه الفكرة في أكثر من آية.
ـ وقال سبحانه حاثاً على التفكير الذاتي: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم)[الروم:8]، وقال: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّـهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)[سبأ:46].
ـ ثانياً: لا كهنوت في فهم الدين، فليس هناك فئة من علماء الدين في الإسلام تملك وحدها شرعية تفسير القرآن والسنّة، لذلك فإن الملّم بالأدوات التي تتيح له فهم النص الإسلامي، يستطيع أن يفهم ويستنتج، فالقرآن مشاع لكل الناس، والسنة مشاعة لكل الناس. نعم، قد يخطىء المرء فيهما، فيُنبَّه إلى خطئه، وقد يصيب.
ـ وأعود لأؤكد على شرط الإلمام بالأدوات، كاللغة مثلاً، وأحياناً التاريخ، مع عملية التتبع والاستقراء والمقارنة، ومَن لا يملكها لا يصح له أن يفسّر كما يشاء، تماماً كما في الطب والهندسة والكيمياء وغيرها، فمن لا يملك أدواتها فإن رأيه سيكون مجرد ظن وتخرّص في الغيب.
ـ ولذا قال تعالى في إشارة إلى واحدة من تلك الأدوات: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)[آل عمران:7-8].
ـ وبعدم الالتزام بتلك الأدوات نشأت بعض المذاهب الفكرية والفقهية في الدائرة الإسلامية، وازداد انقسام الأمة، واليوم نعيش تكرار هذه التجربة أيضاً، من خلال أفراد غير متمكنين من تلك الأدوات وغير متتبعين للنصوص ولكنهم يتبنون ويطرحون أفكاراً بذريعة حرية التفكير كما ذكرتُ بخصوص هل القرآن كتاب الله أم كتاب إلهي.
ـ ثالثاً: هذا لا يعني أن لا تسأل ولا تناقش ولا تحاول أن تفكّر... ولكن لا تحسم الأمر إلا بالرجوع إلى من يملكون الأدوات لتسأل وتناقش وتحاول أن تتوصل إلى قناعة في المسألة، لأن الظن لا يغني من الحق شيئاً. ـ والمناقشة مفتوحة بحيث أن النص إذا خالف الحقيقة العلمية، فإنه يؤوَّل لمصلحة الحقيقة العلمية، لا تكلُّفاً، ولا إلغاءً، بل من خلال أن في اللغة والتعبير إمكانية احتمال أكثر من معنى بسبب الكناية والتشبيه إلخ.
ـ والمناقشة والاستشارة ضرورية لأن بعض الإشكالات والأدلة قد تفوت الإنسان مهما كانت درجته العلمية عالية، وينقل عن الشهيد الصدر وهو أحد أعلام هذا العصر في الفكر الإسلامي أنه كان يبحث في أمر فقال لعل هارون لم يكن نبياً، فذكّره أحد تلامذته بقوله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا)[مريم:53]، فتألم كيف أن الفقه بيده كالعجينة، بينما شعر بغربة عن القرآن، وصمَّم على إثرها أن يبدأ درساً في التفسير.
ـ رابعاً: في المسائل الشرعية القضية غير مفتوحة، فليس لك أن تُحرّم الحلال أو تحلل الحرام أو تُلغي تكليفاً كالزكاة مثلاً لأنك فكرت وبحثت فوجدت أن الناس قد تطوَّروا وليسوا بحاجة إليها.. فالمسائل الشرعية ترتبط بأحكام وقوانين مُنزَلة من عند الله، ونؤمن بأننا ملزَمون بها، ووظيفة الباحث أن يتوصل إلى تلك الأحكام المنزلة من مصادرها وقواعدها، وعملية التفكير الحر هنا تتم في إطار البحث ضمن تلك المصادر والقواعد.
ـ إن حرية الفكر قيمة إنسانية، وإبداع عقلي، يفتح لنا آفاق التطوير، ويجدّد لنا الطاقات، ويُعطي القوة والثبات والحركة للفكر الإسلامي، شريطةَ أن يتم ذلك من خلال الحجة والبرهان، وقد قال تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، أما الظن فلا يغني من الحق شيئاً، وما قامت حضارة الإسلام في التاريخ إلا من خلال التنوع الثقافي، وقد جعل هذا التنوع من الإسلام حضارة، ومن المسلم شخصيةً إنسانيةً غنية. فإذا أردتَ أن تحمل فكرة فلا بد من أن يكون هذا الشيء الذي تلتزمُه واضحاً عندك، بحيث تستطيع أن تدافع عنه، إما من خلال ما توصلتَ إليه بنفسك، أو من خلال الاعتماد على الذين يحملون الثقافة الواسعة العميقة في الموضوع المحدد، وليس على كل شخص يدّعي علماً أو ثقافةً، لأنَّ هناك الكثيرَ من الناس قد يتزيّا بزيّ العلم أو زي الثقافة مِن دون أن تكون لديه دراسة أو إحاطة بهذا الموضوع، ولكنه يُزخرف قولَه ويزيّنه لكي ليُخفي الخلل.. وما أكثر الذين يعيشون الجهل في المجتمعات، ولكنهم يَبرزون بصورة العلم.