خطبة الجمعة 8/جمادى1/ 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: العقل والإيمان


(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)[البقرة:30-33]
ـ تؤكد هذه الآيات الشريفة على تميّز الإنسان بميزةٍ تجعل الاختيار الإلهي له ليكون خليفته على الأرض، والأمر الإلهي بالسجود له أمراً قائماً على أساس معلوم، وليس مجرد أمرٍ تعبّدي.
ـ ومن هنا اعتبر جملة من المفسرين أن هذا التميز يتلخص في الإبداع الإلهي بخلق العقل البشري القادر على الإبداع والخلاقية، وهو ما يميز العقل البشري عن عقل الملائكة، إذ أن عقل الملائكة غير قادر على ذلك، وعن عقل الحيوان، فالحيوان يفكر ـ ولو بشكل محدود ـ ولكن هل يمكن لتفكيره أن يصنع لنفسه حضارة؟
ـ وعليه، فإن التعليم المذكور في الآية ليس من نوع التعليم الإلقائي التدريسي، وإلا لما كان في هذا فضيلة لآدم على الملائكة، وإلا لقالوا: يا رب أنت أخبرته بهذه الأسماء ولم تخبرنا، ولو أخبرتنا لكنا مثل آدم، فأي ميزة وكرامة لآدم علينا حينذاك؟
ـ الدماغ البشري كتلة من الدهون والبروتينات تزن 1.4 كجم، ولكنه يحتوي على حدود 85 مليار خلية عصبية تتصل فيما بينها بـ 100 تريليون ارتباط، ويبلغ الطول الكلي للمسارات العصبية في الفرد البالغ: نحو 5 ملايين وثمانمائة ألف كم، أي أنها تستطيع أن تلف محيط الكرة الأرضية نحو 145 مرة.
ـ هذا المخلوق شديد التعقيد في خلقه وفي أدائه كيف تحدث القرآن عن دوره وعلاقتنا به؟
ـ اعتبر القرآن أن العقل هو الحجّة بين الناس واللّه، وهو الذي يُعرف به اللّه وحقائق العقيدة، وتُعرف به الحياة، ومن بين المصطلحات التي استعملها القرآن في هذا الإطار (أولو الألباب)، و(الأَلْبَاب) جمعُ لُبّ، واللّبّ هو العقل، أو ما زكى من العقل، باعتبار أنه يشبه اللبّ من الأشياء، في مقابل القشر.
ـ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ)[آل عمران:190]. حيث ينبغي على الإنسان أن لا يواجه نظام الكون باللامبالاة أو بشكل سطحيّ، بل أن يستعمل عقله وأن يجرّب ويستنتج ويدرس القوانين الّتي تحكم هذا الكون، لأنّه عندما خلق الكون، جعل فيه نظاماً دقيقاً لا يمكن أن يخترقه أيّ انحراف: (مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ)[المُلك:3].
ـ وحينها سيصل إلى نتائج على مستويين: مستوى معرفي يرتبط بهذا الوجود، يوظفه في صالح البشرية، ومستوى معرفي يرتبط بإيمانه بخالق الوجود وصفاته سبحانه.
ـ ياشبابنا، أيها الأعزاء، شاشات الأجهزة أخذت من وقتكم وجهدكم الكثير.. اعطوا لأنفسكم فرصة للتفكر والتدبّر.. الكمية الهائلة من المعلومات الموجَّهة التي تُضخ عبر الإنترنت قد تعطيكم المعرفة، ولكنها قد لا تفتح أمامكم فرصة التدبر، وقد لا تسمح بذلك، هذا إن لم تكن العلاقة بهذه الشاشة علاقة عبثية أصلاً من خلال الاستغراق في اللهو وتوافه الأمور.
ـ وحينها قد تتحول هذه الشاشات إلى ما يشبه المخدِّرات، وحرمة المخدِّرات تنطلق من أنها تُلغي عقلَك!
ـ فرق بين أن تأخذ المعلومة وتتدبر فيها، وبين أن تراكم المعلومات فوق بعضها البعض لتشكل عندك رصيداً معرفياً قد لا يكون لك رأي فيها، بل تصبح مجرد خازن لها ووسيلة لعرضها.
ـ إن الله سبحانه خلق عقولنا كي نتدبر ونفكر، لا لكي يفكر الآخرون فقط، وننتظر منهم العطاء.. نعم، لا غنى عن أفكار الآخرين، ولكن من الخطأ أن نجعل هذا هو المورد الوحيد، ولذا بعد أن اعتبر الله أن هذا الوجود آيات لأولي الألباب قال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران:191].
ـ ومن خلال هذا التفكر تنال الحكمة التي تحتاجها في تدبير حياتك الدنيا، وفي التخطيط لمستقبلك الأخروي: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[البقرة:269].
ـ إن العالِم الحقيقي بالإضافة إلى أنه يفكر ويتدبر ويبحث ويجرّب ويستنتج، فهو لا يحصر هذا كله في الجانب المادي من المسألة، بل ينطلق من خلالها ليعمّق المسألة الإيمانية، لأنه بالتدبر سيصل إلى نتيجة مفادها أن الحكيم الذي خلق هذا الوجود لم يخلقه باطلاً: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً)؟! [المؤمنون:115].
ـ لتبدأ رحلة البحث عن الهدف من هذا الخلق، والتي ستدفعه إلى ضرورة الارتباط بالخالق، وإظهار العبودية له، والالتزام بأوامره ونواهيه، لأن عدم العبثية في الخلق تعني المسؤولية والمحاسبة (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)؟!
ـ ومن هنا فإن العقل والعلم والوجود وقوانينه بأجمعها تدفع إلى تعميق الإيمان بالله واليوم الآخر (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ) إن هذه الرؤية العقلية المتدبِّرة في الخلق وقوانينه هي التي تخلق العلماء الحقيقيين: (كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) لتدفعهم حينها إلى الارتباط الأعمق بكلام الله وإلى العمل الصالح، وهو ما أكدته الآية اللاحقة: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّـهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً) لماذا؟ لأنهم آمنوا بالآخرة عن قناعة وتدبر وتعقل، ولم تكن هذه المسألة بالنسبة إليهم مجرد فكرةٌ توارثوها عن آبائهم وأجدادهم فتهتز مع أدنى تشكيك: (يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ).