خطبة الجمعة 1/جمادى1/ 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثاني: القرآن: كتاب الله أم كتاب إلهي؟


ـ من آثار الأعمال الإجرامية للجماعات التكفيرية إعادة طرح إشكالات قديمة متجددة حول الإسلام من ناحية فكرية وتشريعية وتاريخية وأخلاقية.
ـ ومن بين ما طُرح مجدداً وأثير عبر وسائل الاتصال الاجتماعي مسألة: هل القرآن كتابُ الله أم كتاب إلهي؟
ـ والمراد من هذا الإشكال إثبات أن القرآن كتاب أرضي بنفحات سماوية، هو كتاب صاغه النبي(ص) بكلماته وتعابيره حين امتزجت التسديدات الربانية والإشراقات الإلهية على قلبه مع:
1ـ معارفه الشخصية على مستوى معلوماته التاريخية والجغرافية والأدبية وغيرها.. وهذا هو التفسير الحقيقي لوجود بعض المعلومات التاريخية والفلكية الخاطئة والسَّقَطات النحوية واللغوية في القرآن بحسب ادعائهم.
2ـ تأثير العناصر الشخصية والتغيرات المزاجية والحالة النفسية للنبي(ص) على النص القرآني.. ومن خلاله نفهم ـ مثلاً ـ لماذا يتغير الخطاب في القرآن حول أمر معين، من مديح ومهادنة إلى ذمٍّ وعنف وأمر بقتال.
3ـ تأثير البيئة والقوانين والأعراف الحاكمة عند تأليف النص القرآني على التشريعات الواردة فيه.. وبالتالي فإن هذه التشريعات والأعراف القرآنية لا تُلزمنا مادامت الظروف قد تغيرت، وعليها أن تتطور كما تطور الفكر والسلوك الإنساني الفردي والعام، لاسيما وأن في بعضها قساوة مبرَّرة حين صدور النص القرآني، إذا نظرنا إلى البيئة التي عاش فيها النبي، ولكنها غير مبررة الآن نتيجة تغير الظرف والزمان.
ـ والجواب على هذا الإشكال يكون بطريقتين، الأولى بالرجوع إلى النص القرآني، فبماذا يصف القرآن نفسه؟
1ـ (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِين) [الشعراء:192-195] (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[يوسف:2]، ومثلهما آيات أخرى، وهي تدل على أنّ كل القرآن بقالبه وألفاظه العربيّة إنما هو وحيٌ من الله نزل على النبيّ، وليس من صياغة النبي وتعبيراته.
2ـ (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)[القيامة:18] وهي تدلّ بوضوح على أنّ الوحي والقرآن قد قُرأ على النبي(ص)، والقراءة تكون للألفاظ لا للمعاني.. ثم هل من عاقل يُنشئ نصاً ثم يذكر في هذا النص أن عليه اتباعه؟ ثم كيف يسمح الله للنبي أن يتَّبع كل القرآن وفيه أخطاء؟
3ـ بعد أن ذكرت سورة البقرة قصة طالوت وجالوت وداود قال تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّـهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)[البقرة:252] والتلاوة هي القراءة المتتالية، فهو إذاً نصٌّ تُلي على النبي من قبل الله عن طريق الوحي، وليس مجرد أفكار إلهية جعلها النبي في صورة كلام. ثم إن هذه الأحداث التاريخية حق لا خطأ فيها، فهي ليست مما تعلمه النبي من أهل الكتاب، بل من الله، وهي ليست معلومات خاطئة، بل حق.
4ـ يؤكد القرآن على أن أمر القرآن بأجمعه ليس بيد النبي، بل هو وحي من عند الله بأكمله، ولو حذف أو
غيّر منه شيئاً فإن عاقبته ستكون وخيمة جداً: (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [يونس:15] فهل هذا شأن كتابٍ يمزج بين المعارف الإلهية الحقة والمعلومات الإنسانية المعرَّضة للخطأ؟
ـ وهناك آيات كثيرة تدل على أن القرآن كلَّه وبنَصِّه، لا ببعضه ولا بمعانيه وأفكاره، قد نزل من عند الله عن طريق الوحي جبريل(ع)، وقد قال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ) قسمٌ عظيم (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ) وهو جبريل، وجبريل هذا (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ، فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ) حيث رأى النبي جبريل في صورته الحقيقية (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ). فإما أن يكون النبي ـ حاشاه ـ كاذباً في كل هذه الآيات، وإما أن يكون متوهماً، وإما أن يكون صادقاً عالماً، والقرآن يقول أنه: (تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة:43-46].
ـ ونكتفي بما سبق مراعاةً للوقت. أما الطريقة الثانية للرد على الإشكال فهي كالتالي:
1ـ هناك فرق بين أن يكون الخطأ في النص والخطأ في الفهم.. ولنأخذ مثال (السماوات السبع)، حيث كان الناس على عهد النبي يعتقدون أن فوق الأرض سبعة أفلاك، واحدة للقمر، وواحدة لعطارد، وواحدة للزهرة إلخ. وجاء قدماء مفسري القرآن ففسروا هذا المصطلح وفق هذه النطرية البطليموسية، ثم ثبت خطأ هذه النظرية علمياً.. فهل نُحمِّل النص القرآني هذا التفسير الخاطئ؟
2ـ وهناك فرق بين أن يثبت خطأ المعلومة بشكل يقيني وعلمي أكيد، وبين أن يكون الإنسان ما زال عاجزاً أمام الوصول إلى حقيقة علمية ما. فعدم اكتشاف علماء الفلك للسماوات السبع إلى هذا اليوم، لا يعني عدم وجودها حتى يقال أن القرآن قدّم معلومة خاطئة اعتماداً على علم الفلك الشائع في ذلك الزمان.
3ـ هم يقولون أن القرآن أُنجِز برعاية إلهية فيما يخص المعارف الغيبية كصفات الله والآخرة والإخبارات المستقبلية وما في القرآن من حكمة وقيم رفيعة، فلماذا لم تمتد يد الرعاية الإلهية للتشريعات والمعلومات التاريخية والعلمية وغير ذلك لتصونها من الخطأ؟! هل كان عجزاً من الله أم عجزاً من النبي؟! فمن يستطيع أن ينال من حقائق الغيب برعاية الله، فإنه من باب أولى يستطيع أن ينال من حقائق الدنيا بالرعاية الإلهية.
ـ ثم إن وجود الأخطاء المدّعاة يسلب الثقة بكل القرآن.. أحقاً يريد الله تعالى أن يسلب ثقة الناس بالقرآن كما هو حاصل عند هؤلاء المشككين؟
إننا نؤمن إيماناً جازماً بأن القرآن الكريم الذي بين أيدينا هو كلام الله تعالى بأكمله وبألفاظه، لا خطأ فيه ولا وَهْم، وأنه نزل من عند الله عزوجل على نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق الوحي الأمين جبريل عليه السلام، وأن الهداية والفلاح لا يتحققان إلا بالإيمان بذلك والعمل به حيث قال تعالى: (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).