خطبة الجمعة 18 ربيع1 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: الصادقان في مواجهة التكفير


ـ بدأت ظاهرة التكفير في الإسلام منذ أن ابتدع الخوارج هذه البدعة القبيحة التي ما زال الإسلام ينزف منها. فقد عمل النبي(ص) على تحصين العلاقة بين المسلمين وتجنيبهم الوقوع في هذه المهلكة بعدة أساليب، منها:
1ـ التشديد على بيان ضابطة الإسلام: وما يترتب على ذلك من أثر. فقد أكّد في أكثر من موقع على أنَّ الشهادتين كفيلتان بالحُكم على الشخص بالإسلام والتعامل معه على أساس هذا الظاهر، وإن استبطن خلاف ذلك ولم يُظهره.
ـ ومن نماذج ذلك ما جاء في خبر فتح خيبر على يد أمير المؤمنين علي(ع) أن النبي(ص) قال له: (قاتِلهُم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمَّداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد مُنعوا منك دماءَهم وأموالَهم، إلاّ بحقّها، وحسابُهم على الله) فلا يحق لنا أنْ نحاكم باطنهم، بل الأمر لعالم السرائر وحَده سبحانه وتعالى.
2ـ التأكيد على حرمة المسلم: والنهي عن العودة إلى السلوك الجاهلي الذي كان يستخف بحرمة الدم فعن أبي بكرة: (أن رسول الله "ص" خطب الناس فقال: ألا تدرون أيُّ يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بيوم النحر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: أي بلد هذا؟ أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: فإن دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم وأبشارَكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلّغت؟ قلنا: نعم. قال: اللهم اشهد. فليبلّغ الشاهدُ الغائبَ،
فإنّه رُب مبلِّغٍ يُبلِّغه لمن هو أوعى له، فكان كذلك. قال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقابَ بعض).
3ـ امتناع النبي عن قتل المنافقين: على الرغم من كل الدور السلبي الذي كانوا يمارسونه، مما نجده واضحاً في القرآن الكريم، حتى بعد أن قويت شوكة الإسلام، وبعد أن تحدثت سورة التوبة بعنف عن النفاق والمنافقين. ولعل من أهم أسباب هذا الامتناع هو عدم فتح باب التكفير المؤدي إلى استباحة الدماء.
4ـ الاكتفاء بالظاهر ولو احتملنا الخلاف: فعن أسامة بن زيد قال: (أدركتُ رجلاً أنا ورجل من الأنصار، فلما شهرنا عليه السيف، قال: لا إله إلا الله، فلم ننزع عنه، حتى قتلناه، فلما قدمنا على النبي"ص"، أخبرناه خبرَه، فقال: يا أسامة، مَن لك بلا إله إلا الله؟ فقلنا: يا رسول الله، إنما قالها تعوّذاً مِن القتل. قال: مَن لك يا أسامة بلا إله إلا الله؟ فما زال يرددها، حتى لوددت أن ما مضى من إسلامي لم يكن، وأني أسلمت يومئذ، ولم أقتله، فقلتُ: إني أعطي الله عهداً ألا أقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله أبداً، فقال النبي"ص": بعدي يا أسامة؟ قال: بعدَك).
ـ ولا يخفى القلق الذي يساور النبي من تغيّر حال المسلمين بعده بالتساهل في هذا الأمر، بحيث أنه يأخذ عهداً من أسامة بأن يلتزم بعدم التكفير وبحرمة دم المسلم عقب وفاته (ص).
ـ وفي حديث آخر ما هو أشد من ذلك، فعن المقداد أنّه قال: (يا رسول الله، أرأيتَ إنْ لقيتُ رجلاً من الكفّار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثمّ لاذ منّي بشجرة فقال: أسلمتُ لله، أأقتلُه يا رسول الله، بعد أنْ قالَها؟ فقال رسول الله "ص": لا تقتله).
ـ وهكذا نجد حفيده الإمام جعفر الصادق(ع) يحافظ على ذات المنهج في المنع من تكفير المسلم، والتأكيد على حرمته في زمنٍ غدا فيه التكفير أمراً مقبولاً ومنتشراً، ووسيلة من وسائل الانتصار المذهبي، أو تحقيق المكاسب السياسية والحزبية، أو التخلّص من الخصوم، أو إلهاء الناس عن فساد السلطة، وغير ذلك.
ـ وقد كان الإخراج من الإسلام يتم بأدنى شبهة أو نزاع فكري أو فقهي.. ومن هنا، انتهج الإمام الصادق(ع) لمواجهة تلك الظاهرة أساليب عدة، منها:
أ ـ التفريق بين الإسلام والإيمان: الخلط بين الإسلام والإيمان من الأسباب التي أدّت إلى تفشّي التكفير، حيث تنفي بعض الآيات والأحاديث الإيمان عن البعض، فيتصور المطّلع عليها أن مثل هذا النموذج مسلوب الإسلام، فيسلبه بالتالي كُلَّ حرمته!
ـ ومن هنا يوضّح الإمام الصادق الفرق بينهما، وفي الآثار المترتبة عليهما، فعن سماعة قال: (قلت لأبي عبدالله(ع): (أخبرني عن الاسلام والايمان أهما مختلفان؟ فقال: إن الاسلام شهادة أن لا اله الا الله، والتصديق برسول الله "ص". به حُقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس. والإيمان: الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الاسلام وما ظهر من العمل).
ب ـ بيان أثر ضابطة الإسلام: فعن عبد الله بن سنان قال: (سألتُ أباعبد الله بِمَ يكون الرجل مسلماً تحلّ مناكحته وموارثته؟ وبِمَ يحرم دمه؟ قال: يحرم دمُه بالإسلام إذا ظهر، وتحلّ مناكحته وموارثته).
ج ـ سد ذرائع التكفير: كانت دلالة بعض الآيات المتشابهة وسيلة من وسائل أصحاب المنهج التكفيري أو الذين لم يملكوا أدوات المعرفة الكافية للإفتاء كي يقعوا في محظور التكفير، ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ الاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ)[يوسف: 106]، فقد تمسك بها البعض ليحكموا بالكفر والشرك على كثير من المسلمين، الأمر الذي نفاه الصادق(ع) حيث قال: (شرك طاعة وليس شرك عبادة)، فهل يستطيع أحد أن ينفي عن نفسه طاعة هواه أو وسوسة الشيطان من حين لآخر؟
ـ وعليه فالآية لا تريد أن تكفّر كثيراً من المسلمين بما يخرجهم عن دائرة الإسلام، بل تريد أن تنبههم إلى سلبية الانقياد للأهواء والوساوس الشيطانية وتنفيذ أوامر الظلم الصادرة عن الظالمين.
ـ وهكذا وقف الإمام(ع) موقفاً صلباً ممن حاول أن يجعل من عدم الاعتقاد بإمامة أهل البيت(ع) مدخلاً لتكفير المسلمين، ومن ذلك ما روي مفصّلاً من حوار دار بينه وبين بعض أصحابه حيث أصرَّ أحدهم على التكفير فقال(ع): (أليس يشهدون أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله "ص" ويصلون ويصومون ويحجّون؟) فلما أصر الرجل على التكفير قال الإمام: (سبحان الله، هذا قول الخوارج).
ـ إنَّ الانتماء إلى مدرسة التكفير لا يُشتَرط فيه الانتماء المذهبي المحدد، بل إنه يمثّل حالةً من الجهل بمفاهيم الإسلام، ودليلاً على التعصّب، وطريقةً في التفكير لا تنطلق من تعاليم الإسلام ولا تلتقي بها، فقد قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[النساء:94] ناهياً بذلك عن اتباع الهوى والتسرع في الحُكم والركون إلى الجهل بأحكام الإسلام، أو بما ادُّعي على لسان النبي وآله عليهم السلام مما يُخالِف حقائق القرآن، وقد روى الصادق جعفر عن النبي الصادق أنه قال: (إنَّ على كل حق حقيقة، وعلى كل صوابٍ نوراً، فما وافق كتابَ الله فخذوه، وما خالف كتابَ الله فدعوه).