خطبة الجمعة 4 ربيع1 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: الإسلام والرسالات السماوية


(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّـهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[البقرة:136].
ـ في خضم ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم من علو اللغة الإقصائية والفعل الإلغائي بأبشع وأعنف صوره، في حالة يندر أن نشهد لها مثيلاً في تاريخ الأمة، نحتاج إلى أن نعود إلى القرآن الكريم لنقف مع آياته اهتداءً بتعاليمه في بيان طبيعة العلاقة بين المسلم والآخر، وبين الإسلام وسائر الرسالات السماوية.
1ـ أما في طبيعة العلاقة بالناس على اختلاف انتماءاتهم فقد قال سبحانه: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات:13]. بكل ما يستتبع كلمة التعارف من تلاقي وتعاون وتكامل.
ـ كما أن طبيعة القانون الحاكم بين الناس على اختلاف انتماءاتهم هو العدل: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[الحديد:15] والأمر ـ بحسب الآية ـ لا يخص المؤمنين فقط.
2ـ اعتبر الإسلام أن الإيمان بالرسل والرسالات السماوية والكتب المنزلة على النبيين يمّثل ركناً أساسياً في ثلاثية قواعد الإيمان: الله ـ النبوة ـ المعاد، وفي تحقق الهداية والفلاح: (ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً للمُتَّقينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[البقرة:2-5].
ـ بل واعتبر الإسلام أن رفض نبوة من ثبتت نبوته، يخلّ بعنوان الإيمان بالرسالة المحمدية، وهو ما يؤكد وحدة الرسالات واتساقها في المبدأ وفي المسار وفي الغاية.
ـ وهو ما عادت إليه سورة البقرة لتؤكده في خواتيمها ـ بصيغة الماضي للتأكيد ـ كما بيّنته في بدايتها بأسلوب الوصف، حيث قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[البقرة:285].
ـ بل واعتبر القرآن أن الدين واحد، والرسالات والشرائع هي المتعددة: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ)[الشورى:13].
ـ والذي يؤكد وحدة الدين أيضاً قوله تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آل عمران:85].
ـ فما أُنزل على أولئك النبيين ليس سوى الإسلام، فالدين واحد، والرسالة في أهدافها العامة وخطوطها العريضة واحدة، وإنما الاختلاف في بعض التفاصيل التشريعية التي جاءت تماشياً مع تغاير الظروف وتكامل الحياة الإنسانية، دون أن تغيّر من الجوهر شيئاً.
3ـ ثم أكد القرآن على أنّ مصير أتباع النبيين لا يختلف عن مصير إخوانهم من أتباع الرسالة المحمدية، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة:62].
ـ فالآية تؤكد أنَّ النجاح في الآخرة تناله كلّ هذه الفئات الدينية، بشرطٍ التقائها على الإيمان باللّه واليوم الآخر والعمل الصالح، وأما شرط الإيمان برسالة محمد(ص) فله بحث آخر ليس محله هنا.
4ـ وتحدّث القرآن منذ بدايات نزوله ـ في موارد كثيرة ـ عن بعض الأنبياء ورسالاتهم وتجاربهم، معتبراً أنهم مثّلوا القمة في العبودية والإخلاص والعطاء والتضحية وتحمل أعباء الرسالة، وقدمهم كنماذج عملية لرسول الله(ص) في مسيرته الرسالية على تنوّع أحداثها وتحدياتها.
5ـ وكما تحدث القرآن عن الأنبياء، تحدّث عن المؤمنين بهم ومعاناتهم في طريق الإيمان والتقوى، فتحدث في سورة البروج ـ وهي من أوائل ما نزل من القرآن ـ عن المؤمنين برسالة السيد المسيح، وكيف تعرّضوا للاضطهاد في أبشع صوره، فما تنازلوا عن إيمانهم، ليقدّمهم كنموذج عملي للمؤمنين برسالة نبينا محمد، كي يثبتوا في ذات الطريق ويصبروا، ولتؤكد الآيات من جهة أخرى على مبدأ وحدة الرسالات السماوية: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.... إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) [البروج:4-11].
ـ ولنفس الهدفين السابقين، علاوة على حث المسلمين على حمل أعباء تبليغ الرسالة، استعرض القرآن بعض جهود حواريي السيد المسيح (ع) والتحديات الصعبة التي واجهوها وثبتوا معها، كما جاء في سورة (يس).
ـ وهكذا تكرر المشهد في قصة أخرى تناولت فتيةً مؤمنين بالرسالة العيسوية، ليقدّمهم في أروع صورة تتحدث عن الإيمان والتقوى والتضحية والصبر، ليكونوا قدوة أخرى للمؤمنين بالرسالة المحمدية، ولتؤكد من جهة أخرى مبدأ وحدة الرسالات السماوية.
ـ إننا عندما نقترب في هذه الأيام من ذكرى ولادة النبي الأكرم(ص)، ونعيش ذكرى مولد السيد المسيح(ع)، فإننا نعتبرهما فرصة لاسترجاع حقيقة التخطيط الإلهي للعلاقات الإنسانية عموماً، وللترابط بين الرسالات السماوية التي جاءت لإخراج الناس من الظلمة إلى النور، ولرفعهم من حضيض الجهل والظلم إلى آفاق العلم والعدل.. كما أنها فرصة لفتح آفاق التفاهم المفترض أن يتحقق بين أتباع هذه الرسالات، وخصوصاً بين المسيحية والإسلام.. لا أن تتحول هذه المناسبات إلى مواقع للتفرقة والتباغض والخلاف، فماذا ربح الإنسان من وراء كل صور الإلغاء والإقصاء والقتل والاضطهاد على الهوية؟!