خطبة الجمعة 12 صفر 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: الإمام الحسن في مواجهة الرُّشى


قال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ)[إبراهيم:3].
ـ تعرّض القرآن في أكثر من مورد لنموذج من الناس الذين يقعون بين خيارين حاسمين، في القرارات الكبرى والمصيرية بالنسبة إليهم.. إما الدنيا، وإما الآخرة، في الوقت الذي تكون فيه الصورة جليّة.. فيختارون الدنيا لا عن جهل، بل لأنهم يحبون العاجلة: (إنَّ هَـٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا)[الإنسان:27].
ـ ومن خلال هذا القرار المصيري، ينطلقون لتقوية مواقع الباطل، ضد أولياء الله، وضد الدعاة إلى الله، ولعرقلة مسيرة الدين وتحريفها، ولذا جاء في الآية (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). هؤلاء قد يكونون من القادة والمقاتلين، كما هو حال عمر بن سعد، الذي قال: أأترك ملك الرّي والرّيُّ مُنيتي أم أرجع مأثوماً بقتل حسين؟
ـ وقد يكونون من الوجهاء أو زعماء العشائر أو السياسيين أو الأدباء، بل وحتى من العلماء، وإلى المستوى الذي يصيب بالغثيان. روى الخطيب البغدادي: (أن أبا البختري دخل وهو قاض على الرشيد، وهو إذ ذاك يُطيّر الحمام فقال: هل تحفظ في هذا شيئاً؟ فقال: حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي (ص) كان يُطيّر الحمام، فقال الرشيد: اخرُج عني. ثم قال: لولا أنه رجل من قريش لعزلته)...
ـ للشيخ عبدالسلام ياسين مؤسس جماعة (العدل والإحسان) في المغرب كلمة جميلة في هذا الشأن في كتابه (الشورى والديمقراطية): (كان في الكوفة عشرة رجال هم شيوخ العشائر وقادة الرأي العام كما نعبر في زماننا. اشترى ضمائرهم المغيرة بثلاثين ألف درهم وبعثهم مع ابنه موسى إلى معاوية ليقترحوا عليه توليةَ يزيدَ ابنِه العهدَ من بعده. حاشيةٌ تتزلف، والمتزَلّفُ إليه ماهر في معرفة اللعبة. فسأل معاويةُ موسى: "بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينَهم ؟" قال موسى: "بثلاثين ألف درهم". قال معاوية: " لقد هان عليهم دينُهم").
ـ نعم، هان عليهم دينُهم، فباع كلٌّ منهم دينَه وآخرتَه بثمنٍ يتناسب ونقطةُ ضعفِه. قال الشيخ ياسين: (كان الأتقياء شحيحين بدينهم، وكان المنافقون يُتاجرون في الدين.. أما زيادٌ فقد كان من قواد جيش الإمام علي كرم الله وجهه. استدرجه معاوية بعد مقتل الإمام واصطنعه واشتراه.. ولم يكن ليبيع دينَه وكَفاءته بدراهم ودنانير.. فاستلحقه معاوية بنسبه، وأمّرهُ على البصرةِ ثمّ الكوفة... خزيُ الزنَى، وخِزيُ أبناء الزنى، وخزي اصطناع أبناء الزنَى لدَعم عرش مَلَكيّ... ما نشاهده اليَوْمَ من حَميّةٍ وغضبيّةٍ عند إخواننا الشيعة، إنْ هو إلا انفجار لما بقي يغْلِي في صدور المسلمين مِن غيظٍ على ما فعله بنو أميةَ بآل البيت).
ـ وقد عانى الحسن(ع) من هكذا نموذج أيَّما معاناة، لأنَّ منهم مَن كان مِن الأعيان والقادة، بل إنَّ منهم مَن كان مِن أقربائه، فتخلوا عن نصرة الحق، وإمام الحقّ وصدّوا عن سبيل الله بعد أن باعوا آخرتَهم بدنيا حقيرة.
ـ عندما شكّل الإمام الحسن القسم الأول من الجيش، وهو المقدمة، جعل القيادة لعبيدالله بن العباس، وبحلولهم في (مَسكَن: جنوب سامراء بعد بلدة الدجيل) وصلت الرشاوى لمجموعة من الزعماء، وهي بين مبالغ مالية ومناصب رفيعة، فتسللوا من معسكر الحسن والتحقوا بمعسكر معاوية، وكتب عبيدالله إلى الإمام بما جرى.
ـ ثم أغري القائد عبيدالله نفسُه بالرشوة، بمبلغ مليون درهم، نصفُها معجّلة، فانسحب إلى معسكر الشام، وروي أن ثمانية آلاف مقاتل انسحبوا معه، حتى أصبح الباقون وليس لهم إمامٌ يصلي بهم الفجر!
ـ وكان الإمام قد بعث قائداً من كندة إلى الأنبار، ومعه أربعة آلاف مقاتل، فأرسل إليه معاوية: (إنك إنْ أقبلتَ إليَّ أولِّك بعض كوَرِ الشام والجزيرة غيرَ منفسٍ عليك) أي لتتصرف فيها كما تشاء. وأرسل إليه خمسمائة ألف درهم، فانحاز الكندي إلى معاوية ومعه مائتين من خواصّه!
ـ ولما أرسل الإمام قائداً بديلاً من (مراد) وقد أقسم أن لا يخون، فإذا به يكرر ما فعله صاحبُه. ثم تحوّل الأمر إلى ظاهرة مغرية، بحيث بات أمثال هؤلاء يبادرون بمكاتبة معاوية عارضين عليه بيع دينِهم وآخرتهم!
ـ أما الإمام الحسن فقد كان حينها في (المدائن: جنوب بغداد) لاستكمال تشكيل جيشه، فلما سمع مَن في معسكره بتبدّل الحال، انقلبوا عليه، ونهبوا ما في المعسكر، وحاولوا اغتياله وأصيب بخنجر في فخذه!
ـ إن هذا النموذج الفاسد والمنافق لعبيدالله والكندي والمرادي، من الذين باعوا آخرتَهم بدنياهم، وانقلبوا من معسكر الحق إلى معسكر الباطل، فصدّوا عن سبيل الله، هذا النموذج لا تختزنه أحداثُ التاريخ فحسب، بل إنَّ مصاديقَه تتجلى في كل زمان، كعين الشمس.. وكم عايشنا من سياسيين ومراهقي عالم السياسة وحزبيين وزعماء وعلماء قد نَحَوا هذا المنحى، فباعوا ضمائرَهم وأوطانَهم ووعودَهم ومواثيقَهم وأيمانَهم والمصالحَ العامة مقابل المال أو الشهرة أو المنصب أو الزعامة، باعوا آخرتَهم بدنيا زائلة، في مواقف مصيرية.. إنَّ قُبحَ هذه الصورة لا يُغطّيه شئ، وإنْ سعى كثيرٌ مِن الناس لتزيينها، ولخداع أنفسِهم قبل أنْ يخدعوا الآخرين.. فمهما صفّقوا لهم ومجّدوهم واختلقوا لهم المبررات، اغتراراً بهم، أو طمعاً في شئ من فتات موائدهم الملوَّثة.. ومهما أُمهِل الفاسدون فتمتَّعوا بما منَّوا به أنفسهم، إلا أنّ ما سوّدوه من صفحات التاريخ سيبقى شاهداً عليهم، وليُلاحقهم عارُ ما فعلوا. (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ)[البقرة:86].