خطبة الجمعة 5 صفر 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : القرآن والتأويل


قال تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[النحل:105] وقال سبحانه: (وَمَنْ أظلَمُ مِمِنَّ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أو كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الظَّالِمُون)[الأنعام:21].
ـ بعد وفاة رسول الله(ص) جرت مساعي حثيثة متعمدة للتلاعب بالنص القرآني، بموازاة المحاولات المتعمدة للتلاعب بدلالة الآيات وتفسيرها وتطبيقها وبدوافع مختلفة. كما لا يخفى أن هناك حالات غير عمدية وقع فيها آخرون نتيجة الجهل أو الرغبة في التميّز أو ادعاء العلم وغير ذلك.. ولكنّ المشترَك بينها أن النتيجة واحدة.
ـ فالقرآن الكريم هو الثقل الأكبر الذي خلّفه النبي(ص) بأمر الله عزوجل وبمعيّة الثقل الآخر: أهل البيت(ع)، ليكون المجموع ضمانةً مِن الوقوع في الضلالة، إنْ تمسّك بهما المسلمون.
ـ ومن هنا انصبّت جهود المنافقين والزنادقة وأمثالهم من أعداء الإسلام لسلب هذه الموقعية الخاصة بالقرآن الكريم نصّاً ودلالة.
ـ ولكنّ الله أخذ على نفسه أن يحفظ النص القرآني، وكان للطريقة التي اعتمدها النبي في تحفيظ القرآن، بالإضافة إلى جعل المرجعية الدينية في أهل بيته، الأثر الكبير في تحقق هذه الإرادة الإلهية.
ـ ويمكن تصنيف تلك الجهود المتعمَّدة إلى أصناف، من بينها:
1ـ ادعاء إمكانية تبديل النص القرآني، تحت شعار (تعدّد القراءات) وتمسكاً بنص نزول القرآن على سبعة أحرف.. وهو نص موضوع على لسان النبي(ص) الهدف منه تمرير هكذا مشروع. وقد سأل الفضيل بن يسار الإمامَ الصادق(ع): (إنّ النّاس يقولون: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف! فقال: كذَبوا، أعداءَ اللّه! ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد).
ـ وقد وضع هؤلاء الحديث حول صحة تبديل النص القرآني على لسان الصحابة وأهل البيت زوراً وبهتاناً، ومن ذلك ـ والأمثلة عديدة ـ أن صحابياً اشتكى إلى النبي من ذلك، فسمع منه فقال: (هكذا أُنزلت) وقرأ الآخر بكلمات مغايرة فقال (هكذا أُنزلت) ثم قال: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسّر منها)!
ـ وفي رواية أن النبي(ص) قال بعدما اشتكى إليه صحابي من هذا التبديل: (إنَّ القرآنَ كلُّه صواب، ما لم تجعل رحمةً عذاباً أو عذاباً رحمة، أُنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شافٍ كاف).
ـ بل ادّعى بعضُهم مؤخراً أنَّ السبعة رقمٌ للكثرة، فمجال التبديل غير منحصر بسبعة موارد، بل يمكن تبديله بصورة متكاثرة غير قابلة للحصر! ولك أن تتخيل نتيجة فتح هكذا باب عندما تدرك أن القرآن لا يقتصر على آيات الرحمة والعذاب، بل هو ملئ بالمفاهيم والتشريعات وأخبار الماضين والآداب، وكلها قابلة للتبديل!
2ـ إضافة مقاطع إلى الآيات لا من باب التفسير، بل بادعاء أنها جزء من النص.
ـ ففي الخبر أن أبي بن كعب قرأ قوله تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) ثم أضاف: (ولو حميتم كما حما لفسد المسجد الحرام) ثم عاد للنص الأصلي (فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ) تحت تبرير أنه من العلم الذي خُصّ به من قبل النبي(ص)!
ـ وأنه قال: (قال لي رسول الله (ص): إنَّ الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، فقرأ : [لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ] ومَن نَعْتِها لو أنَّ ابن آدم سأل وادياً مِن مال فأعطيتُه سأل ثانياً وإنْ أعطيتُه سأل ثالثاً ولا يملأ جوفَ ابنِ آدم إلاّ التراب، ويتوب الله على من تاب، وإنّ الدين عند الله الحنيفية غيرَ اليهودية ولا النصرانية، و مَن يعمل خيراً فلن يُكفَره).
3ـ مزج محتويات السور بعضها ببعض. من قبيل ما روي عن علي(ع) أنه قال: (... وكان عمار إذا قرأ يأخذ من هذه السورة وهذه، فذُكِر ذلك للنبي) فلما سأله النبي: (وَلِمَ تَأْخُذُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَهَذِهِ؟) قال عمار: (تسمعُني أخلِطُ ما ليس منه؟ قال: لا. قال: فكلُّه طيّب).
ـ الآن تخيّل لو أردنا تطبيق هذه القاعدة فستكون واحدة من نماذجه ـ والعياذ بالله ـ كالتالي: (قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ، اللَّـهُ الصَّمَدُ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ)!!
ـ وأحيلكم إلى الكتاب القيم (القرآن الكريم وروايات المدرستين ج2) للعلامة السيد مرتضى العسكري للاستزادة في هذا الباب بما يوضّح خطورة هذا المنحى الذي يسعى البعض لإحيائه مؤخراً تحت عنوان (التأويل).
ـ إننا إذ نربأ بأهل بيت النبي وصحابتِه الصادقين أن يكونوا قد عملوا على التلاعب في النص القرآني تحت أيّ مسمى، وإذ نؤكد على أنّ تلك النصوص مفتراة عليهم، قد وضعها الزنادقة والمنافقون والجهلاء والراغبون في الشهرة.. فإننا ننبّه المؤمنين إلى خطورة ما بات يسعى إليه البعض اليوم في خطاباتهم ومؤلفاتهم من الترويج لإحياء هذه المساعي التي تقف وراءها أيادي مشبوهة ونفوسٌ مريضة وأموالٌ قذرة تريدُ النيل من كتاب الله العزيز، وكل ذلك تحت مسمى (تأويل القرآن).. ومسؤولية كل واحد منّا ما دام عالماً بالحقيقة أن ينبري لدفع هذا الباطل، وقد اتفق المسلمون على قول النبي(ص): (إذا ظهرت البدع في أمّتي فليُظهر العالم علمه، فمَن لم يفعل فعليه لعنة الله).