التوبة من مظالم الناس

عن شيخ من النخع ـ قبيلة عربية يمانية ـ قال: (قلت لأبي جعفر) الإمام محمد الباقر عليه السلام (إني لم أزل والياً منذ زمن الحجاج إلى يومي هذا، فهل لي من توبة؟ قال: فسكت، ثم أعدت عليه، فقال: لا، حتّى تؤدي إلى كل ذي حقٍّ حقَّه).
ذكرت في العدد الماضي أن الذنوب التي تُرتَكب بحق خلق الله لا يتجاوز عنها الله سبحانه لم يتجاوز عنها أصحابُها، وأن الإنسان يقدِم على الله برصيد وافر من الحسنات، فإذا بها تعطى لمن ظلمهم تعويضاً عن ذنوبه بحقهم، فيغدو مفلساً، بل ولربما حمِّل آثامهم.
كيف المَخرَج؟
وأما السبيل للفكاك من مظالم الناس فهو التوبة والإصلاح. ويمكن تصور ذلك كما يلي:
1ـ الإصلاح في المظالم المادية، كالسرقة والغش والاعتداء على الممتلكات وعلى الجسد بما يترك الأثر عليه وأمثال ذلك.. وإنما يتم الإصلاح بإرجاع الحقوق إلى أصحابها، مع الاستغفار وعدم العود إلى مثله.
وفي خبر قصة قوم النبي يونس عليه السلام أنه بلغ من توبتهم أن ردّوا المظالم: (حتى إن الرجل كان يقلع الحجر بعد أن وضع عليه بناء أساسه فيرده إلى مالكه).
2ـ وإن لم يمكن الوصول إلى صاحب الظلامة، بأية طريقة، مع الانتظار والبحث، فعلى المذنب أن يتصدق به عنه، فعن يونس بن عبد الرحمن سُئل أبو الحسن الرضا عليه السلام وأنا حاضر فقال له السائل: (جُعلت فداك، رفيقٌ كان لنا بمكة فرحل منها إلى منـزله ورحلنا إلى منازلنا، فلما انصرفنا في الطريق أصبنا متاعه معنا، فأي شيء نصنع به؟ قال: تحمله إلى الكوفة. قال: لسنا نعرفه ولا نعرف بلده ولا نعرف كيف نصنع؟ قال: إذا كان كذا، فبعه و تصدق بثمنه. قال له على من جعلت فداك؟ قال: على أهل الولاية).
وفي فترة البحث فليسجل الإنسان في وصيته مثلاً أن هذا الشئ ليس له، وأنها أمانة أو ما شابه.
الظلامات المعنوية:
3ـ وإن كانت الظلامة معنوية، من قبيل الغيبة والسب والنميمة والبهتان، فهنا ثلاث حالات:
الأولى: أن لا يعلم المظلوم بأنك اغتبته مثلاً، فالأفضل في هذه الحالة أن لا تُعلِمه، وتستغفر له، وتحسّن صورته عند من اغتبته عندهم، وتعتذر أمامهم مما قلت.
الثانية: أن يعلم المظلوم بذلك، فبالإضافة إلى ما سبق لابد من التسامح منه، وعلى المظلوم أن يتجاوز عنه ويعفو عنه، وإلا كان مُلاماً.
الثالثة: أن تترتب على هذه المظلمة آثار، من قبيل آثار النميمة والتشهير، فلابد من السعي لإصلاح ما أفسد.
الرابعة: أن لا يملك القدرة على الوصول إلى المظلوم، بسبب موته مثلاً أو غيابه، فليستغفر له. ففي الخبر عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌ وآله: مَن ظلم أحداً و فاتَه، فليستغفر الله له، فإنه كفارةٌ له).
ويُنصح في مثل هذه الحالات عموماً أن يأتي المذنب بشئ من أعمال الخير ويهدي ثوابه إلى المظلوم.
حقوق الناس:
إن مسألة حقوق الناس بمستوى من الأهمية حتى أننا نجد أن مسلم بن عقيل لما أخبره ابن زياد أنه مقتول لا محالة: (قال: دعني إذاً أوصي إلى بعض القوم. قال: أوصِ إلى من أحببت. فنظر ابن عقيل إلى القوم وهم جلساء ابن زياد، وفيهم عمر بن سعد فقال: يا عمر، إن بيني وبينك قرابة دون هؤلاء، ولي إليك حاجة، وقد يجب عليك لقرابتي نُجح حاجتي، وهي سرّ، فأبى أن يمكّنه مِن ذِكرها، فقال له عبيد الله بن زياد: لا تمتنع من أن تنظر في حاجة ابن عمك، فقام معه وجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد، فقال له ابن عقيل: إن عليَّ بالكوفة ديناً استدنتُه مذ قدِمتُها تقضيه عنّي حتى يأتيك مِن غَلّتي بالمدينة، و جُثَّتي فاطلبها من ابن زياد فوارها، و ابعث إلى الحسين مَن يرده. فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال؟ قال: اكتم ما قال لك، قال: أتدري ما قال لي؟ قال: هات، فإنه لا يخون الأمين، ولا يؤتمن الخائن. قال: كذا وكذا، قال: أمّا مالك فهو لك، ولسنا نمنعُك منه فاصنع فيه ما أحببت، وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكفّ عنه، وأما جثته فإنا لا نشفعك فيها، فإنه ليس لذلك منا بأهل، وقد خالفَنا وحرص على هلاكنا. ثم قال ابن زياد لمسلم: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد من الناس في الإسلام).
دعاء رائع:
وللإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام في دعاء الإثنين هذه العبارة: (وَأَسْأَلُكَ فِي مَظالِمِ عِبادِكَ عِنْدِي، فَأَيُّما عَبْد مِنْ عَبِيدِكَ، أَوْ أَمَة مِنْ إمآئِكَ، كَانَتْ لَهُ قِبَلِي مَظْلَمَةٌ ظَلَمْتُها إيَّاهُ فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي عِرْضِهِ، أَوْ فِي مالِهِ، أَوْ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، أَوْ غَيْبَةٌ اغْتَبْتَهُ بِها، أَوْ تَحامُلٌ عَلَيْهِ بِمَيْل أَوْ هَوَىً، أَوْ أَنَفَة، أَوْ حَمِيَّة، أَوْ رِيآء، أَوْ عَصَبِيَّة غائِباً كانَ أَوْ شاهِداً، وَحَيّاً كانَ أَوْ مَيِّتاً، فَقَصُرَتْ يَدِي، وَضاقَ وُسْعِي عَنْ رَدِّها إلَيْهِ، وَالتَّحَلُّلِ مِنْهُ. فَأَسْأَلُكَ يا مَنْ يَمْلِكُ الْحاجاتِ، وَهِيَ مُسْتَجِيبَةٌ لِمَشِيَّتِهِ، وَمُسْرِعَةٌ إلى إرادَتِهِ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَأَنْ تُرْضِيَهُ عَنِّي بِما شِئْتَ، وَتَهَبَ لِي مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً، إنَّهُ لا تَنْقُصُكَ الْمَغْفِرَةُ، وَلا تَضُرُّكَ المَوْهِبَةُ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ).