مفهوم النصر : الشيخ حسين الخشن ـ لبنان

يصف بعض الباحثين ثورة الإمام الحسين عليه السلام بأنّها مأساة إنسانية مروِّعة، ويرى آخرون أنّها أشبه بعملية انتحارية لم تبلغ أهدافها، بل أسفرت عن نتائج مأساوية مؤلمة لا تزال علامة فارقة في جبين الإنسانية ولطخة عارٍ في تاريخها.
بيد أنّ هذا التحليل يبدو سطحياً وساذجاً وهو مبتنٍ على رؤية قاصرة لأهداف الثورة ومقاصدها ونتائجها، ويؤسفني أنّ بعض علماء المسلمين لم يوفقوا لإدراك أبعاد تلك الثورة وبليغ دروسها وعظيم عطاءاتها وكانوا أقصر نظراً من الزعيم الهندي الشهير غاندي القائل: "تعلَّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر". ويظهر للمتأمِّل أنّ أساس الاشتباه لدى هؤلاء هو في نظرتهم الخاطئة لمفهومَي النصر والهزيمة، هذه النظرة الضيقة التي تحدِّد مفهوم النصر بمقدار النجاح العسكري فحسب، الأمر الذي لم يتحقَّق في نهضة الحسين عليه السلام ما يجعل منها حركة فاشلة وِفق المقياس المذكور، لكنّ النظرة المذكورة لمفهوم النصر غير دقيقة، بل هي مُجتزئة ومشوّهة ولا تلامس الحقيقة، فالحقيقة التي يدركها البصير والمتابع لحركة النهضة الحسينية وتداعياتها ونتائجها على الواقع الإسلامي ماضياً وحاضراً هي أنَّ دماء الحسين عليه السلام ساهمت في تغيير مجرى التاريخ الإسلامي، وأيقظت الضمائر الميّتة وخلقت حركة وعي في الأُمّة الإسلامية كان من نتائجها حركات التمرُّد وثورات الغضب والانتقام التي تلاحقت وتتالت (حركة المختار الثقفي، حركة التّوابين وغيرها من الثورات)، ما أدّى إلى سقوط حكم بني أُميّة وانهيار سلطانهم، هذا من جهة.
ومن جهةٍ أخرى، فإنّ الإمام الحسين عليه السلام أصبح مثلاً أعلى لكلّ الثّوار والمناضلين من أجل التحرّر والانعتاق من نير الظالمين والمستبدّين، وعندما يغدو المرء مُلهماً للثوار فهذا دليل انتصار لا هزيمة، وعندما تُزلزل دماؤه الزكيّة عروش الظالمين فهذا دليل نصر مؤزر لا مأساة مروعة.
وهكذا نستطيع القول: عن نهضة الحسين عليه السلام أنّها صحّحت مفهوم النصر ذاته، وبرهنت على شموليته وسعته، ليصبح أبعد مدى من مجرّد النجاح العسكري وأعمق غوراً من مجرّد الفوز الآني المؤقت، وقد أثبتت الأيام خطأ كلّ أولئك الأشخاص المخلصين أو غير المخلصين الذين حاولوا ثني الإمام الحسين عن عزمه وتقديم "النصائح" إليه بترك التوجّه إلى الكوفة، بحجّة أنّ أهلها لا يمكن الوثوق بهم، وكذلك دعوتهم له إلى ترك الثورة والخروج على حُكم يزيد لأنّ فُرص نجاحها ضئيلة، فإنّ نظرة هؤلاء "المُشفقين" إلى الأمور كانت قاصرة وخاطئة وسطحية، بينما كان الحسين ينظر عبر منظار التاريخ ويستشرف المستقبل البعيد، فيرى أنَّ دمه الزاكي سيتحوّل إلى نار تحرق كلّ الظالمين، ويرى قوافل الأحرار تهتف باسمه وتسير على نهجه وتتّخذه مثلاً أعلى وقدوة في الجهاد التحرّر.
نعم إنَّ الحسين عليه السلام انتصر؛ لأنّه انسجم مع ذاته ومبادئه، ولم يتنازل عن قِيَمه وأخلاقه، ولم يتقاعس عن القيام بواجبه، ولم يرضَ لنفسه حياة الذلِّ والهوان، وقد قالها عليه السلام: (موت في عزّ خيرٌ من حياة في ذلّ).
إنّ الحسين انتصر بانتصار المبادئ الإسلامية، وبقاء شعلة الدين حيّة، وسنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتعاليمه حاضرة وفاعلة، وقد أشار إلى هذا المعنى إمامنا زين العابدين عليه السلام عندما ورد المدينة المنورة بعد أحداث كربلاء، فقد استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقال له: يا عليّ بن الحسين، مَن غلب؟ وهو مغطّى رأسه، وهو في المحمل، قال: فقال له عليّ بن الحسين: (إذا أردت أن تعلم مَن غلب، ودخل وقت الصلاة فأذَّن، ثم أقم).
ولو انتقلنا إلى الضفة الأخرى إلى معسكر عمر بن سعد وجيشه وتساءلنا أي نصر حقّقه هؤلاء؟ وهم قد استعملوا كلّ الأدوات والأسلحة المحرّمة واللاأخلاقية في حربهم مع الحسين عليه السلام من الشتائم والسباب وحبس الماء عن الرُّضع والنساء وسبي بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضربهنّ بالسياط إلى قطع رؤوس الشهداء والتمثيل بالأجساد!
أيّ نصر حقَّقوه؟ وهم عاشوا – كما يظهر من سيرتهم – حصاراً اجتماعياً وهزيمة نفسيّة وعذاباً روحياً ومعنوياً أمام محكمة الضمير التي لاحقتهم وأدانتهم، قبل أن تلاحقهم سيوف الثوّار والطالبين بثأر الحسين عليه السلام وتستأصلهم عن آخرهم، ثم أُحيلوا بعد ذلك على محكمة التاريخ التي أدانتهم وجرّمتهم أيضاً ووضعتهم في سجلّاتها وصفحاتها السوداء القاتمة، وسوف يُحالون آجلاً على محكمة العدل الإلهي ليقفوا بين يديّ عزيزٍ مُقتدر ويُجازيهم على ما اقترفت أيديهم وسوَّلت لهم أنفسهم.