مع مفاهيم عاشوراء - سماحة الشيخ حيدر حب الله

نعيش اليوم في عصر نحتاج فيه بشدّة إلى كلّ مفهوم يمكنه أن ينهض بالأمّة، ولا يجوز لنا التفريط بأيّ مفهوم ناهض، فكلّ مفهوم من تراثنا له قدرة التأثير النهضوي فهو ضروري، وكلّ مفهوم معطِّل له قدرة التثبيط وبث اليأس والخمول فهو ضارّ، من هنا وعندما ننظر إلى المناسبة العاشورائية السنوية نجد أنّ لديها قدرات كبيرة على تقديم مفاهيم نهضويّة تحتاجها الأمّة اليوم أيّما حاجة، ولعلّ من أجلى هذه المفاهيم ما يلي:
المفهوم الأّول: مفهوم المفاصلة مع الظلم واللاشرعية، فإنّ هذه الثورة الحسينية يمكنها لو وظّفناها توظيفاً صحيحاً أن تمدّنا بمفهوم بالغ الأهميّة اليوم. إنّه المفاصلة مع اللاشرعية، هي تقول لي: لا يمكن أن أنضوي تحت لواء غير شرعي، يجب أن أبحث عن انتماء مشروع في قضاياي السياسية والاجتماعية وغيرها. لا يمكن أن أعيش المخالطة مع الظلم طالما كانت لديّ القدرة على الوقوف في وجهه بإعلان مقاومته والتبرّي منه، ولو لم أتمّكن من تغيير الواقع كلّه.. لهذا ستبدو مفارقة غريبة عجيبة الجمع بين الروح الحسينية وبين الرضا بالظلم واللاشرعيّة. عندما نشارك اليوم في مجالس الحسين عليه السلام فعلينا أن نسأل أنفسنا ونحن نرجع إلى بيوتنا سؤالاً: أين أنا من قضايا الظلم اليوم في العالم؟ وما هي مساهماتي؟ ماذا فعلت ـ بحدود إمكاناتي ـ ضدّ ظلم الإنسان المستضعف، وضدّ الاحتلال، وضدّ الطبقية الجائرة، وضدّ ظلم الطفولة، وضدّ العدوان على المرأة، وضدّ سلب الحقوق، وضدّ استغلال السلطة والموقع، وضدّ تعمية الحقائق، وضدّ التجهيل، وضدّ الفساد المالي، و.. .
المفهوم الثاني: مفهوم التضحية والشهادة، هذا المفهوم الذي يقدّم لي أولوية الأمّة على الفرد، وأولوية الإسلام على المسلم، وأولوية الوطن على الذات، شخصٌ بهذه المكانة يقدّم نفسه وأهل بيته قرابين لله تعالى في سبيل تصحيح مسارات أمّة، وفي سبيل الإصلاح الديني والاجتماعي والأخلاقي والمفاهيمي و.. يريد أن يقول لنا بأنّ كلّ شيء يمكن أن يرخص أمام القضايا الكبرى، والتي منها الأمّة نفسها ومصالحها العامّة.
المفهوم الثالث: فاعلية المرأة، فالحدث الزينبي وما حاطه من وقائع نسويّة هو بالتأكيد رسالة ضمنيّة للنصف الآخر من المجتمع أنّ بإمكانك أن يكون لك دور في اللحظات الحرجة على الأقلّ، فعندما أقدّم في المشهد التاريخي دور المرأة في لحظات الانهيار بشكل معاكس تماماً للنواح والعويل، ليبدو وكأنّه عصامية غير عادية، تقف في وجه أكبر حكّام العصر ـ عنيت يزيد بن معاوية وغيره من رجالاته ـ فهذا يعني أنّ المرأة ليست وظيفتها في الحياة النوح على القتلى من الرجال، بل خلق الحدث في لحظات الحزن، الحدث الإعلامي والسياسي والاجتماعي، هذا مفهوم بالغ التأثير اليوم يمكنه النهوض بالمرأة لتلعب دوراً في لحظات الشدّة، بدل أن نعلّمها النحيب واللطم على الوجه على ما افتقدت من أسرة وعيال.
المفهوم الرابع: الشجاعة، ولا أقصد بالشجاعة تلك الصفة الفردية فقط بما لها من تطبيق محدود، بل أعني مواجهة أزمة الإرادة في الفرد والجماعة والأمّة، ففي كثير من الأحيان لا يواجه الفرد أو الأمّة أزمة معرفة؛ لأنّ الأمور واضحة، بل يواجه أزمة إرادة وأزمة شعور بالخمول اللامتناهي، إنّها أخلاقيات الهزيمة أو موت الضمير كما كان يسمّيها السيد محمد باقر الصدر، عندما تتغلغل في الأمّة تنهي أمرها إلى الأبد، فكلّ واحد يرصد مصالحه ويبني علاقاته تبعاً لها، وعندما تتشابك العلاقات يصعب عليه الفرار من قبضتها.
المفهوم الخامس: صدق الولاء أو السلامة الأخلاقية للانتماء، هذا موضوع ضروري جدّاً، فقد رأينا الكثير من الحركات الدينية وغير الدينية كيف عانت من النفعيين والوصوليين في صفوفها، ورأينا كيف يمكن للشخص الضعيف أن يحرف ولاءه من جهة إلى جهة ثانية تحت ضغط الواقع والمصالح الخاصّة.
المفهوم السادس: الصبر وعدم استعجال النتائج، فكثير منّا لا يصبر للوصول إلى الهدف، وكم من مشروع أجهضناه لأنّنا لم نعطه الوقت الكافي والطبيعي لكي يُنتج ثماره. إنّ ثورة الحسين عليه السلام تعلّمنا أنّ النتائج قد لا تكون في حياتك، بل قد تكون بعد رحيلك.
المفهوم السابع: مفهوم الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المستوى الاجتماعي والسياسي العام، وليس إبقاء الإصلاح في إطار الفرد، ولا حصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إطار التدخّل لمنع أغنية يضعها سائق أجرة في سيارته أو شعر من مقدّم الرأس يظهر من امرأةٍ في الطريق. إنّه تحويل مسارات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وثقافة مفهوم الإصلاح من الأبعاد الفردية إلى الأبعاد العامّة المجتمعيّة، إلى الإعلام والثقافة والتربية والتعليم والسياسة والاقتصاد والظلم الطبقي وسوء الاستهلاك وتبديد الثروات وغير ذلك.
المفهوم الثامن: مفهوم إنسانيّة الدين وإنسانيّة الحرب، وهو المفهوم الذي تجلّى في غير موقع في المسيرة الحسينية، في ثقافة العفو وقبول التوبة مع الرياحي، وفي ثقافة الماء وتوزيعه على الأعداء، في مقابل الثقافة غير الإنسانية التي انتهجها الخصوم.