خطبة الجمعة 7 محرم 1436 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : الصراع المبطن


ـ كان الصراع بين موسى وفرعون صراعاً يدور حول محور الطغيان: (واذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ)[النازعات:17]
ـ والطغيان كما كان من جهة القتل والتعذيب والاسترقاق، كان أيضاً من جهة الشرك وادعاء الربوبية والألوهية (اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ، فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ، وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ، فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ، فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ، فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ)[طه:17-24] . (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي)[القصص:38].
ـ ومن يقرأ سيرة النبي موسى(ع) يدرك أن مشكلته لم تكن فقط مع فرعون وأشياعه، بل كانت مع الذين جاء لإنقاذهم، وهم قومُه من بني إسرائيل، إذ تغلغل الشرك في نفوسهم حتى عبّر القرآن عن هذا في مرحلةٍ لاحقة بقوله تعالى: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)[البقرة:93].
ـ ومن هنا نجحت الفئة المنافقة بعيد الهروب من جحيم فرعون إلى الجهة الأخرى من اليم، في أن تعيد الشرك إلى الواجهة من جديد، ليبدأ صراع متجدد بين التوحيد والشرك، ولكن الحركة ـ هذه المرة ـ كانت من الداخل، بعد أن كان الصراع على المكشوف بين التوحيد والشرك، بين معسكري موسى وفرعون.
ـ وهذه الحركة الداخلية المبطَّنة أخطر بكثير من المواجهة الخارجية المكشوفة، لأن الثانية عادةً ما تزيد المجتمع المؤمن تماسكاً وصلابة، بينما الأولى تمزّق هذا المجتمع إلى فئات متناحرة، وتستهلك قواه وتحرفه.
ـ وهكذا كانت الصورة على عهد رسول الله(ص)، صراع مع قريش وحلفائها على المكشوف، ثم تحوّل ـ بعد فتح مكة ـ إلى صراع من الداخل، حين تغلغل منافقو قريش وحلفاؤهم من الأعراب، ساعين إلى أمرين، فإما إسقاط المشروع الإسلامي برمته، ولو باغتيال النبي(ص)، وإما أن يحرفوه عن أصالته، ويمسخوا معالمه التوحيدية.
ـ ولما فشلوا في سعيهم الأول، سعوا بكل طاقاتهم لإنجاح البديل، وهذا ما عبّر عنه عمار بن ياسر في صفين بكل صراحة حين قال له رجل: (إني خرجت من أهلي مستبصراً في الحق الذي نحن عليه لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم وأنهم على الباطل، فلم أزل على ذلك مستبصراً حتى كان ليلتي هذه، صباح يومنا هذا، فتقدم منادينا فشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ونادى بالصلاة، فنادى مناديهم بمثل ذلك، ثم أقيمت الصلاة فصلينا صلاة واحدة، ودعونا دعوة واحدة، وتلونا كتاباً واحداً، ورسولنا واحد، فأدركني الشك في ليلتي هذه، فبتُّ بليلةٍ لا يعلمها إلا الله حتى أصبحتُ، فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له. فقال: هل لقيت عمار بن ياسر؟ قلت: لا . قال: فالقه فانظر ما يقول لك فاتبعه. فجئتك لذلك. قال له عمار: هل تعرف صاحب الراية السوداء المقابلتي؟ فإنها راية عمرو بن العاص، قاتلتُها مع رسول الله "ص" ثلاث مرات، وهذه الرابعة ما هي بخيرهن ولا أبرهن، بل هي شرهن وأفجرهن. أشَهِدتَ بدراً وأحداً وحُنيناً، أو شهِدَها لك أب فيخبرك عنها؟ قال: لا. قال: فإنَّ مراكزنا على مراكز رايات رسول الله "ص" يوم بدر، ويوم أحد، ويوم حنين، وإن هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب...).
ـ و قد أخبر النبي(ص) بذلك حين قال: (إنَّ منكُم لمن ليقاتلنَّ على تأويلِ القرآنِ كما قاتلتُ على تنزيلهِ) ثم أشار إلى علي(ع).. أي أن الصراع سيكون في المرة اللاحقة من الداخل.
ـ وتأتي كربلاء لتكون امتداداً للقتال على التأويل، وصورة أخرى من صور الصراع الممتد عبر التأريخ بين التوحيد والشرك، بين العدالة والطغيان، بين الحق والباطل، فصاح الحسين(ع) في يوم عاشوراء مسترجعاً هذه الحقيقة: (تَبّاً لَكُم أيّتُها الجماعةُ وتَرَحاً، أَحِينَ اسْتَصْرَختُمُونا والِهينَ فأَصْرَخناكُم مَوْجِفين، سَللتُم عَلينا سَيفاً لنا في أَيْمانِكم، وحَشَشْتُم علينا ناراً قْدَحْناها على عدوِّنا وعدوِّكُم... فسُحقاً لكُم يا عَبيدَ الأُمَّةِ وشُذَّاذَ الأحزابِ، ونَبَذَةَ الكِتابِ، ومُحرِّفي الكَلِمِ، ونَفْثَةَ الشيطانِ، وعُصْبَةَ الآثامِ، ومُطفِئي السُّننِ، وقَتَلةَ أولادِ الأنبياءِ) نعم.. هذه هي حقيقتهم، وأما الموقف الحسيني الخالد فتمثَّل في قوله: (ألَا وإنّ الدَعِيَّ ابنَ الدَعِيِّ قدْ رَكَزَ بينَ اثنَتَينِ: بينَ السِّلَّةِ والذِّلَّةِ، وهيهاتَ منّا الذِّلَّةُ، يأبَى اللهُ لَنَا ذلكَ ورَسُولُهُ والمؤمِنونَ، وحُجورٌ طابَتْ وطَهُرتْ، وأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ ونُفُوسٌ أبِيَّةٌ مِنْ أنْ نؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ على مصارِعِ الكِرَامِ. ألَا وَقَدْ أَعْذَرْتُ وأَنْذَرْتُ، ألَا وإنِّي زاحِفٌ بهذِهِ الأُسرةِ على قلَّةِ العَدَدِ، وكَثرةِ العدُوِّ، وخِذلانِ الناصر). وصدق الحسين في وعده وقد استرخص دمَه في نُصرة الإسلام، وهو يقاتل على التأويل. وما زالت معركةُ التأويل قائمة.. ونحن نشهد جحافل التكفيريين التي لا تهدأ في تدمير قيم الإسلام ومبادئه، ومسؤوليتنا ـ إن كنا حسينيين كما ندّعي ـ أن نقف في وجه هذا الطغيان، بأن نفوّت الفرصة عليهم في تحقيق حلمِهم الرامي إلى تشويه صورة الإسلام، و تدمير منابع قوته، و ضربِ المسلمين بعضِهم ببعض، أملاً في أن يقفوا بعد ذلك على جماجم الجميع. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.