الطلاق الناجح : الشيخ علي حسن

لاشك أن العقل والشرع يؤكدان على لزوم السعي حتى النفس الأخير من أجل الإصلاح بين الزوجين المتخاصمين، إلا أن الخلافات أو المشكلات بينهما قد تصل إلى طريق مسدود، فيكون الطلاق بينهما رحمة في بعض نتائجه، وتَغلب المصلحة فيه على السلبيات المترتبة عليه.
نقطة بداية:
و بدلاً من أن يكون الطلاق نهاية الخط بالنسبة إلى هذين الزوجين، لتبدأ مسيرة الراحة وإعادة ترتيب الأوراق من كل طرف في القضية، والتخطيط للمستقبل في أجواء خالية من العنف اللفظي والجسدي والمعنوي، بدلاً من ذلك ـ عادةً ـ ما يتم تحويل الطلاق إلى نقطة بداية لمسيرة طويلة من الخلافات والنزاعات والتقاضي بين الطرفين وصور الانتقام والثأر للنفس وغير ذلك مما تُتخَم به ملفّات القضايا في محاكمنا، حول النفقة وحضانة الأطفال وغير ذلك.
الطلاق الفاشل:
وهذا ما يحوّل الطلاق إلى مشروع فاشل آخر يُدخِل الطرفين في دوامة جديدة لربما تطول إلى سنوات وسنوات. ولذا من المهم أن نعي كيف يمكن تحقيق الطلاق الناجح!
وقد يستهجن البعض هذا التعبير، لأن الطلاق أبغض الحلال، ولأن عملية هدم لأسرة، وغير ذلك، ولكن فلنتذكر دائماً أننا نتحدث عن الطلاق المترتب على ارتباط زوجي غير قادر على الاستمرار كما بدأنا الحديث بذلك.. وبالتالي فإن آخر الدواء الكي، ومن المفترض أن لا ندفن رؤوسنا في التراب أمام حقيقة قائمة تتمثل في وجود نسبة كبيرة من حالات الطلاق الفاشل، بل هي النسبة الأكبر من حالات الطلاق في مجتمعنا، ولنواجه ذلك بوضوح وجرأة لنخفِّف من تبعاتها وآثارها العميقة على المستوى المالي والنفسي والتربوي والاجتماعي.
الطلاق في القرآن:
وفي القرآن الكريم حديث متعدد عن الطلاق، في أبعاده الشرعية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية، في مقدماته وآثاره، وتتركز أكثر هذه الآيات في سورة البقرة ابتداءً من الآية 227. والقراءة الواعية لهذه الآيات تكشف أن القرآن يقدِّم أسس الطلاق الناجح، معتمداً في ذلك تارةً على التشريع، وتارة على الأخلاق، وأخرى على الوجدان، ورابعة على التقوى.
ولنلاحظ الآية 237: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّـهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)... ثلاثة أسس مهمة ذكرتها الآية لتحقيق طلاق ناجح: العفو ـ تذكر الفضل ـ العلم الإلهي.
العفو:
كأساس أخلاقي يصدم الواقع، حين يتجاوز أحد الطرفين عن شئ ـ أو كامل ـ حقه، فيزيح كمّاً هائلاً من الضغط النفسي والاحتقان المرشَّح أن يُولِّد المزيد من صور الصراع والثأر، بل ولربما تتحول الخصومة إلى وفاق وعلاقة حميمة: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت:34].
تذكُّر الفضل:
كأساس وجداني عاطفي يثير الشجون، وذكريات تلك الأيام الجميلة التي جمعت الطرفين.. أيام الخطوبة، وشهر العسل، والسفر، واستقبال أول مولود.. والأيام التي ضحى فيها أحد الطرفين من أجل راحة الآخر، ومن أجل تحقيق الإنجازات على أصعدة الحياة المختلفة، وغير ذلك من الصور التي عندما تُستَرجع، تهدأ معها النفس، وتعود إلى شئ من اتزانها الذي لربما يكون وسيلةً للعفو والتنازل وإغلاق ملفات الخصومة والتصالح على المستقبل.
العلم الإلهي:
كأساس إيماني معرفي يقوم على أن الله سبحانه العليم السميع البصير الخبير الذي لا تخفى عليه خافية، وأن من يتتبع سلبيات الآخر ليُسقط شخصيته، أو ليحقق مكاسب شخصية، فإن الله سيكشف حقيقته وسلبياته، وأن عقاباً أخروياً ينتظره، وفي المقابل فإن من يعفو ويفرّج كربة مؤمن يفرّج الله عنه سبعين كربة، وأن الله لا تخفى عليه خافية.
ترتيبات واتفاقات:
ومن هنا فمن الضروري لإنجاح أي حالة طلاق أن يتم الأمر بهدوء بعيداً عن اللجوء إلى التخاصم عند القضاء (بالطبع هناك إجراءات شرعية وقانونية تخص إجراء الطلاق بشكل صحيح في المحكمة وتثبيت ذلك ولست أتحدث عن هذه المفردة)، وأن يتفق الطرفان على الترتيبات المتعلقة بالشؤون الخاصة بهما من قبيل المسائل المالية والتي قد تحتاج إلى بعض التنازل من هذا الطرف وذاك.. ومسألة حضانة الأطفال، علماً بأن الشرع عندما جعل حضانة السنوات الأولى للأم، فإن هذا من جهة فصل النزاع، والأفضل أن يتم الاتفاق بلا نزاع على أن يتربى الأطفال مع الأبوين، وأن يتم تقاسم الأوقات والأيام بصورة ودية وبما يعود بالصالح على الجميع، وعدم تحويل الأمر إلى وسيلة للانتقام.
الصورة القرآنية:
لقد قدّم القرآن الكريم صورة دقيقة وإنسانية للطلاق الناجح حيث قال تعالى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[البقرة:229]، لكل ما للإحسان من معنى وصور وانعكاسات، بعيداً عن الإساءة في الموقف وفي الكلمة وفي المشاعر وليضع الإنسان نصب أعيننا قول الباري سبحانه: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّـهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المزمل:20].