خطبة الجمعة 30 ذوالحجة 1435 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: كفر بالنعمتين


(وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّـهِ فَأَذَاقَهَا اللَّـهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ، وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) [النحل:112-113].
ـ لا يخفى أن المجتمع الذي يسوده الشعور بالخوف والقلق والخطر يتحول إلى بيئة طاردة للاستثمار والعمل والإنتاجية والنمو والتطور. وهكذا فإن ضعف الاقتصاد يفتح المجال لانعدام الأمن حيث تضعف النفوس فتتفشى السرقات وخيانة الأمانات وغير ذلك.
ـ ونحن نتذكر حال الكويت ـ مثلاً ـ في التسعينيات من القرن الماضي، مع التهديدات الصدامية المستمرة، كيف كانت الأجواء تمثل بيئة طاردة للمستثمرين من الخارج فضلاً عن رؤوس الأموال المحلية.
ـ ومع فقدانهما تبدأ أسس المجتمع بالتآكل، ومن ثَم تكون عُرضةً للانهيار أو هدفاً للأطماع الخارجية.
ـ كما و تشير الآية إلى أن الكفر بنعم الله من أسباب بروز هذه المشكلة.. ومن مصاديق هذا الكفر أن يتم توظيف هذه النعم في الشر والتدمير والإفساد بدلاً من توظيفها بما يعود على البشرية بالخير.
ـ وفرة الماء ـ مثلاً ـ من النعم العظيمة، وبعض البلاد الإسلامية تنعم رغداً بالماء، ولكن بدلاً من أن توظفها إيجابياً في التنمية الداخلية وفي خير الشعوب المجاورة لها، تعمل على استخدامها كسلاح ابتزاز ضد جيرانها، والذين عادةً ما يشتركون معها في القومية أو الدين الإسلامي!
ـ والأنكى من ذلك أن تستعملها بعض الحكومات كسلاح ضد شعبها.. وهذا ما شهدناه من المقبور صدام على سبيل المثال، والذي قطع إمدادات المياه عن شعبه في منطقة الأهوار، فجففها، وقطع بالتالي مصدر رزق الناس، وغيّر بيئتهم، فأهلك الحرث والنسل.. ومثل ما فعل صدام، يفعل آخرون.
ـ في سنة 1973 استعمل العرب ـ من خلال الأوابك ـ سلاح النفط ضد التحالف الدولي المساند للكيان الصهيوني، ولدفع الدول الغربية لإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 1967.
ـ ومن حينها قرر الغرب أن يُحيِّد هذا السلاح ويُبطل مفعوله. ووضع هنري كيسنجر مشروعاً استراتيجياً لـ (تجويع العرب) تحت شعار (الغذاء مقابل النفط). أي سلب الأمن الغذائي ليتم سلب الأمن برمّته في المنطقة. ولنتذكر المعادلة الإلهية: (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)[قريش:4].
ـ وفي سنة 2008 عاد كيسنجر ليكتب مقالاً بالتعاون مع البروفيسور (مارتن فيلشتاين) أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، يحذران فيه من تكدّس مليارات النفط، وضرورة اتخاذ خطوات عملية في هذا الاتجاه.
ـ واليوم نشهد كيف تنجح التوصيات الكيسنجرية في خلق توترات دائمة في المنطقة، وكيف يدمِّر اللا أمن اقتصادَ مجتمعاتِنا ويستهلكها، بل ويتحول النفط أحياناً إلى سلاح مُستخدَم في الصراعات البينية في المنطقة بعد أن كان سلاحاً ضد العدو المشترك.
ـ فمتى نشهد عودة المسلمين والعرب إلى رشدهم، ويكفّوا عن إثارة الخلافات والصراعات البينية، ويوجّهوا طاقاتهم وخيراتهم للتنمية، ولمواجهة أعدائهم، فالله سبحانه وتعالى أخبرنا أن الكفر بالنعم لن تكون خاتمتُه سوى أن تذوق هذه المجتمعات ويلات الخوف والجوع، أجارنا الله من ذلك.. إن مسؤوليتنا أن نحذِّر وأن ننصح وأن نبيّن ـ بقلوب صادقة ونوايا مخلصة ـ كما قام الرسل بذلك خوفاً من فوات الأوان ونزول النِّقَم، و لاتَ حين مندَم..
اللهم اجعل هذا البلد آمناً وجميع بلاد المسلمين.. اللّهُمَّ تَفَضَّلْ عَلى عُلَمائِنا بِالزُّهْدِ وَالنَّصِيحَةِ، وَعَلى المُتَعَلِّمِينَ بالجِهْدِ وَالرَّغْبَةِ، وَعَلى المُسْتَمِعِينَ بِالاتِّباعِ وَالمَوْعِظَةِ، وَعَلى الأمَراءِ بِالعَدْلِ وَالشَّفَقَةِ، وَعَلى الرَّعِيَّةِ بِالإنْصافِ وَحُسْنِ السَّيرَةِ بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .