خطبة الجمعة 24 ذوالقعدة 1435 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: الحرب على التكفيريين


ـ في قِسم الحكم من نهج البلاغة أن أمير المؤمنين (ع) مرَّ بقتلى الخوارج في النهروان فقال: (بُؤْساً لَكُمْ، لَقَدْ ضَرَّكُمْ مَنْ غَرَّكُمْ. فَقِيلَ لَهُ: مَنْ غَرَّهُمْ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: اَلشَّيْطَانُ اَلْمُضِلُّ وَ اَلْأَنْفُسُ اَلْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ. غَرَّتْهُمْ بِالْأَمَانِيِّ، وَ فَسَحَتْ لَهُمْ بِالْمَعَاصِي، وَ وَعَدَتْهُمُ اَلْإِظْهَارَ، فَاقْتَحَمَتْ بِهِمُ اَلنَّارَ).
ـ بات الحديث عن تشكيل التحالف الدولي لمواجهة إحدى الفصائل التكفيرية حديثَ الساعة.. الفصيل الذي غـدا عالمياً وجه الإرهاب والتطرف، وعند كثير من المسلمين السُّذَّج أساس انبثاق الخلافةِ الإسلامية، وعودةِ أمجادِها!
ـ و بغضّ النظر عن دوافع هذا التحالف ونواياه الحقيقية والمدى الذي ستستغرق فيه المواجهة، إلا أن من الواضح أن التحالف يأخذ على عاتقه البُعد العسكري في المواجهة، دون سائر السبل.
ـ والملاحظة الأولى التي أسجّلها هنا هي أن هذا الفصيل التكفيري وإن كان المفردة الأبرز على الساحة العالمية اليوم، إلا أنه لا يمثّل سوى مفردة من مفردات التطرف والإرهاب، وهو سليل كيانات تكفيرية أخرى لها حضور وقابلية لتفريخ وجودات متطرفة، ولكن يبدو أنها غائبة عن حسابات المواجهة.
ـ مجدداً، يرتكب مثل هذا التحالف ـ عن عمد أو دون قصد ـ خطيئة المواجهة القاصرة مع هكذا كيانات تكفيرية إرهابية، وبالتالي تنتهي المواجهة الدامية هنا، لتطل علينا من جديد شجرةٌ تَخرجُ في أصلِ الجحيم، طَلْعُها كأنّه رءوسُ الشَّياطين!
ـ وصدق الإمام علي(ع) حين قيل له في شأن الخوارج بعد معركة النهروان: (يَا أمِيرَ المُؤمِنِينَ، هَلكَ القَومُ بِأجْمَعِهِم) فقال(ع): (كَلاَّ وَ اَللَّهِ، إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلاَبِ اَلرِّجَالِ وَ قَرَارَاتِ اَلنِّسَاءِ، كُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلاَّبِينَ).
ـ الملاحظة الثانية تنبثق من مطالعة الأسلوب الذي اعتمدته قوات التحالف المنتصرة في العالمية الثانية للقضاء على النازية.
ـ في الحزب النازي اجتمعت الرغبة بغسل عار الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، مع التوق إلى العظمة الألمانية، واتجاه عَقَدي سياسي يسوّغ استعمال الوحشية والعنف والتصفيات الجماعية لتحقيق الأهداف.
ـ و فور هزيمة ألمانيا في مايو 1945، بدأت عملية المواجهة اللاعسكرية مع النازية بهدف استئصالها.
1ـ عُقِد مؤتمر (بوتسدام) لإصلاح ألمانيا، و بالإضافة إلى نزع السلاح وإلغاء القوات المسلحة، اتفقت الدول المجتمعة على إعادة تعليم وتأهيل الشعب الألماني وفق أسس مضادة للمتبنيات النازية.
2ـ تم تفكيك وإلغاء الحزب النازي وتشكيلاته وجميع المؤسسات الشعبية النازية والتي استُخدمت كأداة لسيطرة الحزب، ومنع انبعاث افكاره بأي شكل من الأشكال .
3ـ محكمة (نورنبرغ) قامت بتصنيف النازيين الحزبيين إلى أربعة مراتب، لكل مرتبة مستوى من العقوبات.
4ـ تم إلغاء كل القوانين والتنظيمات التي ترسخ التعصب على أسس العرق والوطنية والآراء السياسية والعقيدة.
5ـ اتُّخذت قرارات صارمة بطرد أعضاء الحزب النازي فوراً من وظائفهم، وتوجيه 131 سؤالاً تحقيقياً لكل متقدم لطلب وظيفة بهدف الكشف عن ميوله وأفكاره.
6ـ غلق المعاهد التعليمية النازية وتأسيس نظام تعليمي وبرنامج إعادة التوعية لإزالة كل مبادئ النازية.
7ـ إيقاف الأنشطة التجارية للنازيين من أصحاب رؤوس الأموال.
8ـ تشكيل قوة إعلامية و فنية ممن يحملون توجهات مخالفة للنازية مع التدقيق في توجهات المؤسسات الإعلامية والفنية القائمة واتخاذ القرار المناسب بشأنها.
9ـ ووصل الأمر إلى حد إعادة تسمية الشوارع والحدائق والمباني، ورفع الأنصاب التي لها صلة بالعسكرية أو النازية!
10ـ وقامت بعض الدول بتجريم التقليل من شأن الجرائم النازية أو تبريرها، وإدانة كل من يروّج للرمز النازي.
ـ وفعلاً نجح التحالف المعادي للنازية في اجتثاث جذورها، وتحقيق التغيير الكامل في البُنيةِ الفكرية والأخلاقية للشعب الألماني.
ـ بغض النظر عن هذه التفاصيل وصحة كل مفردة من مفردات الإجراءات السابقة، ولكن الفكرة هي أن مواجهة أي عقيدة إرهابية متطرفة لا تتم بالأسلوب العسكري فحسب، بل بحزمة متكاملة من الإجراءات الصارمة والحاسمة وعلى أكثر من صعيد، لأن الاقتصار على الجانب العسكري مدعاة لعودة تلك المجاميع الإرهابية قويةً متضخمةً نتيجة ظهورها بصورة الضحية عند السُّذَّج من الناس، ونتيجة استغلالها من قبل بعض الدول والأجهزة الاستخباراتية التي تستفيد من هكذا كيانات في تحقيق أهدافها، فتعيدها إلى الواجهة من جديد، بأساليب ماكرة، وأسماء جديدة، لتعود عجلة المعاناة، وتُسفَك دماء مئات الآلاف من الأبرياء، وتُنتَهك الحرُمات بأبشع الصور، وتستعملها قوى الاستكبار لتطويع دول المنطقة، وتُنفَخ الحياة في ماكنات تصنيع السلاح، وتَنشب الحربُ أظفارَها، وتُستنزَف المزيد من الطاقات والأموال التي يجب أن تُوظَّف للتنمية ولما فيه خير شعوب المنطقة.. إن هذا كله يعطينا الحق في أن نشك ألف مرة في النوايا الحقيقية عند قادة التحالف الذي بات يدق طبول الحرب عند أبوابنا من جديد، ولعله يحمل في جيبه خارطةً جديدةً لمعالم الشرق الأوسط.