خطبة الجمعة 17 ذوالقعدة 1435 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: المسيئون مثيرو فتنة


ـ نجد في القرآن الكريم تارة تنديد بالتفرّق والانقسام، وذلك من قبيل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام:159].
ـ وإذا كان المفسِّرون قد اختلفوا في تحديد المقصودِين في الآية، إلا أن الفكرة هي أن الله سبحانه يندِّد بإثارة الخلاف والتفرقة في الدين الواحد، انطلاقاً من المطامع والأهواء والشهوات.
ـ وهو بالتالي تنديد بالذين يستخدمون القضايا العامة في سبيل تحقيق المصالح الخاصة، وأن هؤلاء ليسوا أصحاب دين ومبدأ ليلتقي معهم النبي(ص).. لأنهم لو كانوا يؤمنون بدينهم، أو يحترمونه، لما عملوا على تحقيق الفرقة في داخله وإضعاف قوته من خلال ذلك.
ـ ونجد في القرآن تارة أخرى حديثٌ عن أن صفة بثّ الفرقة هي صفة المشركين، فهل تحبون أن تتصفوا بصفتهم؟ قال سبحانه: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)[الروم:31-32].
ـ إن امتلاك العقلية الحزبية المتعصبة هي صفة المشركين، لا المؤمنين الموحِّدين، فالمشركون ينقسمون، ثم تتمحور كل فئة منهم حول نفسها، ما يجعل كل واحدة منها منغلقة عن الأخرى، فرحةً بما عندها، وتلعن أختَها المختلفة عنها.
ـ أمّا الانتماء إلى الله وإلى دينه فإنه لا يغلق حياة الإنسان عن الآخرين، بل يؤسس إلى التعارف (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)[الحجرات:13] ولدراسة تجاربهم، وفتح المجال للبحث عن المشتركات التي تكون المنطلق لهداية الآخر إلى الحق: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) [آل عمران:64].
ـ ثم تأتي آيات أخرى وتحذّر ـ فيما لو وقع الانقسام ـ من تكرار تجربة السابقين، بتحويل ذلك الانقسام إلى صراع: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)[المائدة:14].
ـ هؤلاء النصارى تخلّوا عن الميثاق الذي أعطوه لله بأن لا يتفرقوا في دينهم، ونسوا التعاليم الإلهية، وأهملوا التحذيرات السماوية، فاختلفوا وانقسموا وتعصّبوا وتحزّبوا وتقاتلوا، وسيبقون هكذا إلى يوم القيامة.
ـ كل هذه التحذيرات وغيرها تحققت في الأمة الإسلامية التي بدورها أعطت الميثاق لله وهي تتلو قوله سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آل عمران:103]، فتفرَّقت وتحزَّبت وتعصّبت وتقاتلت انطلاقاً من أهواء شخصية وأغراض سياسية وتعصُّبات دينية.
ـ ولا يخص هذا الصراع بين شيعة وسنة، بل ـ تقريباً ـ الكل قاتل الكل.. وغالباً ما تكون الأمور المسبِّبة للفتن والاقتتال تافهة، ونتاج العصبيات وإلغاء العقل.
ـ تبدأ من كلمات تصدر من أحدهم، أو تصرُّف لبعض الجهلاء، ثم تشتعل الفتنة، خاصة عندما تجد إحدى الأطراف أنها امتلكت شيئاً من أسباب القوة، فتطغى وتبطر.. أو عندما تشعر بأنها بدأت تفقد تلك القوة التي كانت تمتلكها، فتسعى لتدمِّر، لكي لا يهنأ الطرف الآخر ويتمدد.
ـ واليوم يقوم البعض بنفس هذه الأدوار في السعي لإثارة الفتن.. وعشنا في الأيام الماضية إحداها. ـ و لدي هنا ملاحظات:
ـ أولاً، أن مسألة الإساءة إلى التشيع ورموزه ليست بجديدة، وما جاء على لسان (المسئ) من بهتان ليس بجديد عليه وعلى أمثاله على مر القرون.. وعلينا أن نتفكر هل من الحكمة السعي إلى الإثارة والتحشيد هذه الأيام، لاسيما بلحاظ أن ما صدر عنه كان قبل أشهر مضت؟
ـ ثانياً، كما أن هذا الشخص يسئ من خلال قناته الفضائية ليل نهار، هناك مَن هو محسوب علينا ويسئ ليلاً ونهاراً ـ من خلال فضائيته ـ إلى مقدسات الآخرين ورموزهم ومذهبهم.. فهل يملك أحد أن يُسكتهم؟
ـ ثالثاً، لدينا في الكويت قضاء، ويمكن من خلاله التخاصم، ليُجازَى المسئ على إساءته.. وفعلاً بعد كل الإثارة التي حدثت، في نهاية المطاف الأمر اتجه نحو القضاء.. ألسنا في غنىً عن الإثارة لاسيما بلحاظ الأجواء الملتهبة التي تعيشها المنطقة، وقد تجر نيرانها إلى الكويت بكل سهولة، ولو اشتعلت الفتنة فبيد مَن
إطفاؤها؟ ألا تشهدون ما يجري في العراق وسوريا لسنوات؟! أتريدون أن يكون مصير الكويت ذات المصير؟
ـ إن الله عزوجل يخبرنا في القرآن الكريم أن الاختلاف والتمزُّق والفتن ما هي إلا صورة من صور العذاب يجرُّها الناس إلى أنفسهم: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ)[الأنعام:65] فهلّا حكّم المسلمون عقولهم وتخلّوا عن تعصباتهم وتحزّباتهم واحتكموا إلى القرآن.. إن الذين يثيرون الفتن إنما يعملون لإخضاع الإسلام لمصالحهم وأغراضهم، والإسلام منهم برئ، ورسول الله منهم برئ، كما قال تعالى: (لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) من دسائس وفتنٍ وموبقات.. ويحققون لأعداء الإسلام مخططاتهم بأقل جهد.. إن مسؤولية المخلصين أن يواصِلوا مساعيَهم في التقريب وتوحيد الكلمة ورصِّ الصفوف، فإنَّ في هذا مرضاة الله تعالى، والتزامٌ بالميثاق الذي واثقنا عليه.. فكونوا المخلصين لله ولرسوله وللإسلام تُفلِحوا.