خطبة الجمعة 10 ذوالقعدة 1435 - الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: دين الإنسانية


ـ في سورة النساء توجيهات ونصائح وتشريعات تخص العلاقات الإنسانية المختلفة، ومن نماذج ذلك:
1ـ العلاقة باليتيم من خلال ممتلكاته: (وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا) [الآية 2] وآيات أخرى تناولت ذات الموضوع.
2ـ العلاقة الزوجية وآثارها كالمهر والطلاق والخلافات الزوجية وتوارث الزوجين والقِوامة: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) [الآية3،4]. (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّـهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [الآية 34]، وآيات أخرى.
3ـ العلاقة بين الورثة وصاحب المال، من قبيل الآية 7: (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا).
4. علاقة المحارم بعضِهم ببعض، وهو ما نجده في الآيتين 23 و24: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) إلخ الآية.
5ـ حُرمة الملكية الفردية، والقانون العام الذي يحكم انتقال المال إلى الفرد الآخر، من قبيل الآية 29: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ).
6ـ حُرمة النفس البشرية: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [الآية29]، سواء أفسّرنا العبارة بحرمة الانتحار أو حرمة قتل الإنسان الآخر. وكالآية 92: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً).
7ـ العلاقة بين أفراد الأسرة، والجيران، والمحتاجين، والعبيد، والأصدقاء: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ... ) إلخ الآية 36.
ـ ومن هنا نفهم لماذا بدأت السورة بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. وأريد أن أسجل ملاحظتين:
ـ الأولى: أننا عادة عندما نفكّر في بداية الآية نركّز على مسألة بداية الخلق، وكيفية التزاوج والتناسل الذي حصل، وكيف امتدت الذرية البشرية من خلال ذلك، ونغفل عن نقطة مهمة تمهّد لكل الآيات القرآنية التي تحدّثنا عن اشتمالها على توجيهات ونصائح وتشريعات تخص العلاقات الإنسانية المختلفة.
ـ وكأن الآية الشريفة تقول: عندما تُقبلون على التعامل مع الآخر، أو التصادم به، أو التنازع معه، تذكروا أن أصلكم واحد.. تذكروا أنكم في النهاية تلتقون في أب واحد، وأم واحدة.
ـ إذاً هناك عاملان ذاتيان للردع، عامل (التقوى) التي يجب أن تكون حاضرة وفاعلة كي تردع الإنسان عن العدوان على الآخر، وتصحح طبيعة سلوكه، وعامل (الإنسانية) التي يُفترض بها أن تعين التقوى أو تسد مسدَّها لو فقد الإنسان تقواه.
ـ والأمر الآخر تأكيد الآية ـ والسورة ـ عموماً على أن المرأة مشمولة بعنوان الإنسانية، تماماً كالرجل.
ـ وقد لا ندرك أهمية هذا الطرح إلا إذا رجعنا إلى زمن النزول حيث سنكتشف حينها أن أكثر الأمم والأديان إما كانت تسلب هذه الصفة عن النساء، بل واعتبرتهن رجساً محضاً، وإما أنها اعتبرت المرأة إنساناً من الدرجة الثانية تُملَك وتُورَّث، ولا تَملِك ولا تَرِث.
ـ وهذا ما يدفعنا إلى التأكيد على أن الإسلام دين الإنسانية، وأن الإنسان هو محور الدين في تعاليمه وتشريعاته وأخلاقياته. ومن المؤسف أن تصدر فتوى ممن عُرفوا بضيق الأفق تقول: (لماذا نتنكر للدين ونعتز بالإنسانية، فنجعل أعمالَنا نحو المحتاجين من أجل الإنسانية، ونقول هذا عمل إنساني، ولا نقول هذا عمل إسلامي، إن هذا يقلل من أهمية الإسلام).
ـ إن هؤلاء لا يُدركون أننا عندما نؤكد على عنوان الإنسانية إنما نتناغم مع القرآن الكريم في طرحه، دون أن نتخلى عن عنوان الإخلاص في العمل لله سبحانه والتقرب إليه والاعتزاز بديننا الإسلامي.
ـ وللأسف فإن أصحاب هذه المقولات والفتاوى هم الذين خرّجوا للعالم أولئك التكفيريين الذين لا يُقيمون وزناً للإنسانية، ولا يحترمون حقوق الناس في الحياة والكرامة والأمن والمُلْكية. إن هؤلاء يتصورون أن الله خَلَق الإنسان من أجل أن يكون هناك دين، وأن تكون هناك شريعة، بينما قد جعل الله الدين وأنزل الشريعة من أجل الإنسان. هذا التصور المقلوب يُفقدهم معياراً مهماً في تقييم تصوراتهم وأفعالهم، من قبيل تصديقهم بأن النبي(ص) قال: (لقد جئتُكم بالذبح)، هذه المقولة التي لا يتوانون عن نشرها وتطبيق مضمونها بالشكل الفظيع الذي تُتداول مشاهده في وسائل الإعلام والتواصل، ويخدمون بذلك كلَّ من يضمر العداء للإسلام والمسلمين، ويخلقون حاجزاً نفسياً رهيباً سيبقى لعقود مانعاً من قبول الإسلام وانتشاره في العالم، وليمثّل عُقدةً نفسية تجاه الإسلام والمسلمين، يصعب التخلص من لوثتِها إلا ما شاء الله. وأما جهود محاربة التكفيريين فإنها لو بقيت مقتصرة على الجانب الأمني فإنها لن تؤتي ثمارَها.. كما أن المعالجة الفكرية ستبقى قاصرة أيضاً في ما لو اكتفت بمنع تكفير السلطة الحاكمة فقط، والسماح بتكفير عامة الناس، لأن جذور التكفير ما دامت ضاربةً في النفوس، فإن شجرتها الخبيثة ستبقى تمد أشواكها المسمومة في كل ناحية.