أبي لا يُطيقُنا - الشيخ علي حسن ـ برمنجهام

كتبت ذات مرة عن الغطرسة الدينية، وقلت حينها أن هذا النوع من الكِبر لا يُتناول في الخطاب الديني إلا قليلاً، وهو من أخطر أنواع الكِبر على اعتبار أنه يصدر من المتدين فتتم شرعنته بل وقد يرتدي ثوب القداسة.
غطرسة دينية:
وفي البين حالة أخرى سلبية تبرز في ساحة المتدينين على المستوى النفسي والعملي، وهي بحسب الظاهر قريبة الصورة من الغطرسة، ولكنها في واقعها تختلف عنها، وتتمثل في الانفعال الشديد وعدم تحمُّل الآخر الأدنى في مستوى التدين.
كم من أسرة تشتكي من الأب أو الأخ المتدين الحريص على حضور المساجد والأجواء الإيمانية، في الوقت الذي لا يطيق فيه جو الأسرة، لأنه يراهم لا يرتقون في سلوكهم التديني إلى المستوى الذي يطمح إليه.
انفعال غريب:
ولذا تجده بمجرد دخول البيت، سريع الانفعال، مُكفَهِرّ الوجه على طول الخط، مُعرِض عن التفاعل مع أفراد أسرته، أو متصادم معهم لأتفه الأسباب، ولربما اختار الابتعاد عن جو المنزل الذي يضيق به، ويختار البعد عنهم إلى أجواء أخرى يرتاح إليها، هروباً من الواقع، وتخلياً عن المسؤولية.
توصيات مباشرة:
1ـ القاعدة العامة في إصلاح الغير هي ما جاء في قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[النحل:125].
أي أن الله أعلم بالأساليب التي تهدي الإنسان إلى الحق، وتقوده بعيداً عن الضلال.. فكم تتناسب هذه القاعدة مع ذلك السلوك المتشنج والعنيف؟
2ـ القرآن الكريم عرض لنا النتيجة المترتبة على كل أسلوب على حدة، أسلوب الغلظة والمواقف العنيفة، وأسلوب الرحمة والرفق، وذلك في قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران:159]، فأيهما ستختار؟
3ـ في البين توصيات نبوية عديدة بالتحلي بالرفق في التعامل مع الآخر، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنَّ اللهَ رَفيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ ويُعطِي عَلَى الرِّفقَ ما لا يُعطِي عَلى العُنفِ)، وقوله: (لا يَكونُ الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَهُ، ولا يُنزَعُ مِن شيءٍ إلا شَانَه)، وفي نص أنه أضاف: (فَإنَّما بُعثتُم مُيسِّرينَ ولَم تُبعَثُوا مُعَسِّرينَ).
الطف بهم:
وفي عهد أمير المؤمنين علي عليه السلام لمالك الأشتر مقطع وإن كان يخاطب فيه الحاكم، ولكنه ينطبق على كل مسؤول بما في ذلك رب الأسرة، فهو بمثابة الحاكم، وأسرته وهي بمثابة الرعية: (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ، إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ، وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَابْتَلَاكَ بِهِمْ).
مع خليل الله:
ولاحظ كيف خاطب النبي إبراهيم عليه السلام أباه، أياً كان النسب بينهما، وهو يدعوه للهداية: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا، يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) وحتى عندما كانت ردة فعل هذا الرجل قاسية حيث قال: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)، قال الخليل: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)[مريم:42-47].
4ـ قد يعتبر البعض أن هذا النوع من الرفق لا يعني سوى التسيب والانفلات، ولكن لاحظ الوصف النبوي لسمات المؤمن، وقد اخترت مقاطع منه طلباً للاختصار: (إنَّ من أخلاق المؤمن: قوةً في دين، و حزماً في لين.. وحلماً في علم.. لا يحيف على من يُبغض ولا يأثم فيمن يُحب، ولا يُضيّعُ ما استُودع).
فليس المقصود من الرفق مجرد اللين الذي يجعل الأمور منفلتة، بحيث يرى الخطأ ويقبل به، ويتنازل عن مبادئه وإيمانه.. بل هو قوي في دينه، وحازم في قراراته.. ولكن المسألة هي كيفية معالجة الخطأ.. المعالجة التي يجب أن تترافق مع الرفق والرحمة كي تكون مؤثرة، وأما الضرب والإهانات والصراخ فقد تؤتي ثمارها في الظاهر، ولكنها ستكبت الكراهية وتزرع العُقد وتدفع إلى تحيّن الفرصة للانفجار أو التمرد العنيف.
5ـ ضرورة التحلي بطول النفس في هذا الطريق، وهو بمقدورنا، وقد قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا)[العنكبوت:14]. والمطلوب منا التحمل بما لا يتجاوز سنين قلائل.
عنف وعنف وعنف:
إنّنا نعيش في مجتمعاتنا الكثير من حالات العنف: العنف في البيت، وفي المجتمع، وفي الصّراع على مستوى السياسة والأوضاع الاجتماعيّة، وهذا ما يأتي لنا بالكثير من المشاكل، ويوقعنا في الكثير من الأوضاع السلبيّة.. ومن هذا العنف عدم الرفق بمن نرى أنهم أدنى منا مستوىً في التدين.. فعلينا أن نتعلّم كيف يرفق بعضنا ببعض، وكيف نعيش اللّين في الكلمة، واللّين في القلب، واللّين في الحياة دون أن نتخلَّى عما نؤمن به من مبادئ وقيم، وعندها سنجني في كثير من الأحايين النتائج الإيجابية لهذا الرفق.