علماء المذاهب واحترام الحقيقة : العلامة الشيخ محمد جواد مغنية


منذ سنوات، وأنا أنشر بين حين وحين مقالات رجوت فيها شيوخ المسلمين من سنيين وشيعيين أن لا يحصر كل فريق دراسته الفقهية في مذهب آبائه وأجداده. ولم يكن الباعث لي على تأكيد هذا الرجاء الرغبة في التقريب بين المذاهب الإسلامية فحسب، وان كنت من المتطوعين في هذي السبيل، وإنما غرضي الأول أن يرتكز درس الشريعة الإسلامية على أساس إسلامي صرف، لا مذهبي، كي لا تُلوَّن الشريعة بلون يُخفي جمالها وحقيقتها، ويُجنَّس بجنسية تقيم الحدود والسدود بين بني الإنسان، بل بين أبناء الدين الواحد.
نشأة المذاهب:
لقد نشأت المذاهب، وتعددت بعد الإسلام ونبي الإسلام، نشأت في ظروف سياسية، لغاية دنيوية، تهدف إلى التفريق والشتات، ونشأ الإسلام في ظرفه الطبيعي، لغاية إنسانية تهدف إلى الاخاء والمساواة، فالتعصُّب لفقه مذهب خاص تعصُّب للسياسة المحترفة التي تمخضت عن ذلك المذهب.
إن الشريعة الإسلامية لم تستخرج من الوهم والخيال، بل لها أصول مقررة لا يختلف عليها مسلمان، مهما كان مذهبهما، وإنما الخلاف والجدال بين المذاهب حصل فيما يتفرع عن تلك الأصول، وما يستخرج منها، فالعلاقة بين أقوال المذاهب الإسلامية هي العلاقة بين الفرعين المنبثقين عن أصل واحد.
ونحن إذا أردنا معرفة أن هذا المذهب على حق في أسلوبه واستخراج الحكم من مصدره دون سائر المذاهب، فعلينا أن نلاحظ جميع الأقوال المتضاربة حول الحكم، وندرسها بطريقة حيادية، بصرف النظر عن كل قائل وعن منزلته العلمية والدينية، ثم نحكم بما يؤدي إليه الأصل والمنطق على نحو لو اطلع عليه أجنبي لاقتنع بأنه نتيجة حتمية للأصل المقرر. وبهذا نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه.
أما مَن يطَّلع على قول مذهب من المذاهب، يؤمن به ويتعصب له، لا لشيء إلا لأنه مذهب آبائه، ويحكم على سائر المذاهب بأنها بدعة وضلالة فهو مصداق الآية الكريمة : «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ».
وأي فرق بين رجل أفنى العمر في حفظ معتقدات أبيه ودرسها، لا يتجاوزها قيد أنملة، ورجل لم يقرأ، ولم يكتب، ولم يدرس شيئاً، ولكن تكونت له من بيته وبيئته عادات ومعتقدات؟ أي فرق بين الرجلين حتى يقال: ذاك عالم، وهذا جاهل؟!
ليس العالم من وَثق برأيه ومعتقد آبائه، وكانت له المقدرة التامة على المحاورة والمداورة، وإنما العالم من فَصل الواقع عن ذاته وعاطفته، وفكَّر تفكيراً حراً مطلقاً، لم يتعصب لرأي على رأي، بل يقف من كل قول موقف الشك والتساؤل، وإن كثر به القائلون، وآمن به الأقدمون.
إن احترام العالِم يقاس باحترامه للحقيقة، فهي ضالته أينما وجدت. لقد أثبتت التجارب أن الاختصاص بعلم من العلوم يحتاج إلى ثقافة عامة، ومعرفة نظريات ومبادئ علوم شتى، فكيف يكون الإنسان متخصصاً بعلم، وهو لا يُعرف عنه إلا قول عالِم يخالفه فيه كثير من العلماء؟ وأستطيع التأكيد أن من الأجانب من يعرف عن الإسلام وتاريخه وشريعته ورجاله وعقائدهم ما لم يعرفه كثير من متخرجي الأزهر والنجف، وإنه لغريب أن تقوم جامعتان، لهما تاريخهما وعظمتهما، إحداهما في العراق، والثانية في مصر، يبحثان في موضوع واحد، ويهدفان إلى شيء واحد: إلى نشر الشريعة الإسلامية، ثم لا يكون بينهما أي نوع من أنواع التعارف والتعاون.
إن في كتب الشيعة الإمامية اجتهادات لا يعرفها الخواص من علماء السنة، ولو اطلعوا عليها لقويت ثقتهم بالشيعة وتفكيرهم، وكذا الشأن بالقياس إلى كتب السنة وعلماء الشيعة، إن اطّلاع كل فريق على ما عند الآخر من أقوى البواعث على تمهيد السبيل للتقريب بين الإخوة، من حيث يريدون أو لا يريدون.