محاضرة بعنوان : الإمام علي والنهي عن المنكر ج2 : الشيخ علي حسن


ـ نحن عندما نتحدث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإننا عادة ما نفكر في الجوانب العبادية، بينما نغفل عن وجود منكرات سياسية وفكرية واجتماعية وحياتية ومبدئية (قيمية).
ـ ولو قرأنا مواجهات الإمام مع خصومه في الحروب الثلاثة فسنجد أن المنكر السياسي كان على رأس الأمور. لاحظ أن الإمام قال ما قاله في ذلك المقطع من خطبته وهو في ساحة المعركة، فقد قال الراوي: (إني سمعتُ علياً(ع) يقول يوم لقينا أهل الشام...).
ـ هل كانت مشكلة معاوية عدم الصلاة؟ هل كانت مشكلته عدم الصوم؟ هل كان ذلك هو منكر الشاميين؟ ما المعروف الذي من أجله خرج عليه آمراً؟ وما المنكر الذي من أجله خرج علي ناهياً ومستخدماً للمرتبة الأعلى
منها وهي استعمال اليد والقوة؟ في مصنف ابن أبي شيبة، نفس معاوية يعترف أن صراعه معهم لم يكن من أجل جوانب عبادية: (عن سعيد بن سويد قال: صلى بنا معاوية الجمعة بالنخيلة في الضحى، ثم خطبنا فقال: ما قاتلتكم لتصلوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجوا، ولا لتزكوا، وقد أعرف إنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون).
ـ إذاً أحد أهم المنكرات التي واجهها علي(ع) في صفين وسعى للنهي عنها بالقوة كان منكراً سياسياً. وهكذا كان الأمر في حرب الجمل، كما كان سياسياً وأمنياً في النهروان.
ـ وفي كلها لم يستعمل المرتبة الأعلى ـ وهي القوة باليد والسلاح ـ إلا بعد أن استنفذ المرتبة الأدنى (باللسان).
ـ وإذا كان الإمام(ع) قد أثنى على أصحاب كل المراتب (في ذلك المقطع من الخطبة التي صدرت بها حديثي بدءً) وكلٌّ بحسبه، إلا أن هذا لا يعني أن الإمام كان راضياً عن تخلي الناس عن المرتبة الأشد حين تستدعي الظروف ذلك.
ـ ولذا ذم أهل الكوفة حين تقاعسوا في مرحلة لاحقة عن النهوض بهذه المسؤولية في مستواها الأشد، خاصة بعد أن أضيف إلى المنكر السياسي المنكر الأمني أيضاً، فهم قد أنكروا ذلك بالقلب وباللسان، ولكن الظروف
كانت تستدعي الترقية إلى المستوى الأعلى.
ـ قال(ع): (أَلاَ وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هؤُلاَءِ القَوْمِ لَيْلا وَنَهَاراً، وَسِرّاً وَإِعْلاَناً، وَقُلْتُ لَكُمُ: اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَوَاللهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ في عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاَّ ذَلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الغَارَاتُ، وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الأوْطَانُ. وَهذَا أَخُو غَامِد قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الأنْبَارَ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ ورجالاً منهم كثيراً ونساءً، والّذي نفسي بيده لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالمُعَاهَدَةِ، فتَنْتَزِعُ أحجالَهَما وَرُعثُهما، ثُمَّ انْصَرَفُوا موفِورِينَ، لمَ يُكلَم أحدٌ منهم كَلماً).
ـ وأما من يتخلى عن كل المراتب فقد وصفه الإمام وصفاً دقيقاً حيث قال: (ومنهُم تارك لإنكارِ المُنكرِ بلسانهِ وقلبهِ ويدهِ فذلِك ميِّتُ الأحياءِ).
ـ فهل يمكن اعتبار الذي لا يستشعر الأخطار المحدقة بمجتمعه، ولا يستجيب لها أيّ استجابة، حتى أقل الإستجابات شأناً وأهونها تأثيراً، وأقلها مؤونةً ـ وهي الإنكار بالقلب ـ أكثر من جثة بلا حياة؟
ـ قد يقول قائل: ألا نجد علياً(ع) بنفسه سلبياً قرابة ربع قرن بعد أن مُنع من الحكم؟ ألا نجد علياً في الساحة العامة مع أحداث السقيفة ثم يختفي عن المشهد تماماً ليعود مجدداً عندما بويع للحكم إلى استشهاده؟
ـ هذا الكلام غير دقيق تماماً، فنحن بقراءتنا المنقوصة نتصور الأمور بهذا الشكل، بل نحن نظلم علياً حين
نتصوره في جانب المأساة والموقف السلبي لا غير في تلك الفترة. نعم، لا يمكن لمنصِف أن ينكر الظلامات الكثيرة التي تعرض لها الإمام(ع)، ولكن أن نحجِّم علياً في زاوية المأساة والظلامة وبالتالي الانسحاب من الحياة العامة، فهذا ظلم للإمام يضافُ إلى مظلومياته الأخرى.
ـ الخلافة عند الإمام علي لم تكن قضيه أساسية بحيث يجمّد حياته إن لم يحصل عليها.. علي ليس كأحدنا.. نحن قد نتطلع للمناصب، فإذا لم نحصل على ذلك المنصب نشعر وكأننا فقدنا دورنا في هذه الحياة، فننكفئ على أنفسنا، ونشعر بالأسى لفقداننا منصبًا كنا نتطلع إليه.
ـ أما علي بن أبي طالب فلم يكن هكذا، وهو الذي اعتبر نعله المهترئة المخصوفة أحب إليه من الحكم، ولا ينظر إلى الحكم إلا كوسيلة يقيم من خلالها حقاً أو يدفع باطلاً.
ـ وأعطيك الآن ثلاثة نماذج من الدور الذي نهض به الإمام علي(ع) في تلك الفترة:
1ـ عن الإمام الصادق(ع): (قال رسول الله (ص) لعليّ(ع): يا عليّ، القرآن خلف فِراشي في الصحُف والحرير والقراطيس، فخُذوه واجمَعوه ولا تضيِّعوه، كما ضيعت اليهود التوراة، فانطلق علي (ع) فجمعه في ثوب أصفر، ثمّ ختم عليه في بيته..) وبعيد وفاة النبي واستحكام ما جرى في السقيفة لزم الإمام بيته (وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه، فلم يخرج من بيته حتى جمعه... فلما جمعه كله وكتبه بيده تنزيله وتأويله، والناسخ منه والمنسوخ) ثم يصف جهده قائلاً: (جمعتُه كلَّه في هذا الثوب الواحد، فلم يُنزل الله على نبيه (ص) آية من القرآن إلا وقد جمعتها).
2ـ بعد ذلك بثلاث سنين (14هـ) وفي أثناء فتح بلاد فارس وخلافة عمر بن الخطاب لم تكن الأمور على ما يُرام في جبهة القتال. قال ابن أعثم: (لما بلغ عمر بن الخطاب ما يجري على الجبهة الشرقية مع الفرس جمع المهاجرين والأنصار، وشاورهم في أن يصير إلى العراق، فكلهم أشار عليه بذلك..).
ـ أما الإمام علي(ع) فخالفهم، وكما جاء في نهج البلاغة أنه قال: (... ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه. فإن انقطع النظام تفرق وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً. والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام وعزيزون بالاجتماع. فكن قطباً، واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك...). قال ابن أعثم: (فقال عمر: ومن تشير علي أن أوجِّه يا أبا الحسن؟ قال: أشير عليك أن توجه رجلاً يشرح باليسير، ويسرّ بالكثير. فقال عمر: من هذا؟! أشر علي) فأشار عليه الإمام بسعد بن أبي وقاص. فاستحسن عمر ذلك وأقره.
3ـ وبعد ذلك بسنة أرسل أبو عبيدة كتاباً إلى الخليفة عمر يقترح عليه القدوم إلى بيت المقدس لأن أهلها قبلوا الصلح بشرط أن يقدم الخليفة بنفسه ليكون هو الذي يصالحهم ليكون أوثق عندهم، ولكنه في النفس الوقت بيّن مخاوفه من الغدر. فلمّا ورد كتاب أبي عبيدة على عمر، وقرأه أرسل إلى وجوه المهاجرين والأنصار، المقيمين معه بالمدينة، واستشارهم في الخروج إلى الشام. فقال علي بن أبي طالب (ع): (نعم عندي من الرأي، إن القوم قد سألوك المنزلة التي لهم فيها الذل والصغار، ونزولهم على حكمك عزٌّ لك، وفتح للمسلمين. ولك في ذلك الأجر العظيم في كل ظمأ ومخمصة، وفي قطع كل واد وبقعة، حتى تقدم على أصحابك وجندك. فإذا قدمت عليهم كان الأمر والعافية والصلح والفتح إن شاء الله، وأخرى فإني لست آمن الروم، إن هم أيسوا من قبولك الصلح، وقدومك عليهم أن يتمسكوا بحصنهم، ويلتئم إليهم إخوانهم من أهل دينهم، فتشدّ شوكتهم، ويدخل على المسلمين من ذلك البلاء، ويطول أمرهم وحربهم، ويصيبهم الجهد والجوع. ولعل المسلمين أن يقتربوا من الحصن، فيرشقونهم بالنشاب، أو يقذفونهم بالحجارة، فإن أصيب بعض المسلمين تمنيت أن تكون قد افتديت قتلَ رجل مسلم من المسلمين بكل مشرك إلى منقطع التراب. فهذا ما عندي والسلام). فقال ابن حجة الحموي: (ففرح عمر بمشورة علي وقال: لست آخذاً إلا بمشورة علي، فما عرفناه إلا محمود المشورة، ميمون الطلعة. ثم خرج إلى الناس فقال: أيّها الناس! إنّي خارج إلى الشام للأمر الذي قد علمتم، ولولا أني أخاف على المسلمين لما خرجت، وهذا علي بن أبي طالب بالمدينة، فانظروا، إنْ حَزَبَكم أمرٌ، عليكم به، واحتكموا إليه في أموركم، واسمعوا له وأطيعوا، أفهمتم ما أمرتكم به؟! فقالوا: نعم، سمعاً وطاعة).
ـ هذه الأدوار التي قام بها الإمام علي(ع) بعد وفاة رسول الله مما نُقل إلينا، وغيرها كثير، لاسيما مساعيه للتعامل الصحيح مع الثورة على الخليفة عثمان، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في تلك الأجواء الملتهبة، هي من أهمَّ تجليات إخلاصه لمصلحة الدين والأمة، وسمو نفسه عن تأثير العواطف والمصالح الشخصية.