خطبة الجمعة 29 من شعبان - 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : العراق بين المحاصصة والفدرلة


ـ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:103-105]
ـ يعتبر أستاذ علم الاجتماع السياسي الهولندي (آرِند ليبهارت) Arend Lijphart مؤسساً لنظرية (الديمقراطية التوافقية) Consociationalism وكتب كتاباً بهذا الخصوص عام 1968، وتُرجم إلى العربية.
ـ النموذج الديمقراطي المعمول به غالباً هو نموذج ديمقراطية الأكثرية، فالأكثرية الفائزة في الانتخابات تشكل الحكومة ومن بينها يكون رئيس البرلمان ولربما رئيس الجمهورية وذلك بحسب النظام المعمول به.
ـ أما في النموذج التوافقي فالمسألة يُراعى فيها أمر آخر، إذ يؤخذ بعين الاعتبار التكوين التعددي للمجتمع، من حيث الأديان أو المذاهب أو القوميات وما إلى ذلك، فيكون للكل حصة في الحكم والتشريع بنحوٍ ما.
ـ وقد بُشِّر بهذا النظام على أنه سيمثل الحل الأنجع وصمام أمان في البلدان التي تتعدّد فيها الطوائف والأعراق، ومن خلالها يُكبح جماح الأكثرية، كما تضمن حقوق الأقليات.
ـ وعُمل بهذه النظرية في لبنان، فرئيس الجمهورية ماروني، ورئيس الحكومة سني، ورئيس البرلمان شيعي مهما كانت إفرازات نتائج الانتخابات، بل وحتى النظام الانتخابي يعتمد على هذه المحاصصة الدينية المذهبية.
ـ وقد يبدو للبعض أن هذا النوع من الديمقراطية يمثل حلاً مناسباً لمثل المجتمع اللبناني، ولكن الواقع يؤكد على أنه نظام رسّخ حالة التمزّق والصراع بين الأطراف المختلفة في لبنان على المستوى السياسي، ثم انعكس ذلك بقوة وبصورة سلبية جداً على الوضع الاجتماعي.
ـ فهو لم يفشل فقط في إعادة المجتمع اللبناني إلى حالة التعايش والتقارب، التي عهدها سابقاً، بل فرض أدبياته القاتلة وأخلاقه المشوّهة على هذا الواقع.
ـ فالإنسان اللبناني اشتهر بانفتاحه ورحابة صدره، وإذا به يتحصّن بالغرف الطائفية والمذهبية والحزبية، ويسقط كل محاولات الحوار وفرص التلاقي على المستويات الشعبية، فضلاً عن المستويات السياسية.
ـ وبالتالي غاب مفهوم الوطن الواحد، والمجتمع الواحد، والمصلحة العامة، وحضرت العناوين الدينية والمذهبية والعصبيات والمصلحة الحزبية والطائفية. وما جرى في لبنان، أريد له أن يتكرر في العراق.
ـ فبعد إسقاط النظام الطاغوتي في2003 رسّخ الأمريكان نظام الديمقراطية التوافقية بقوة، حتى تعالت في وقتها أصوات تطالب بإقرار النظام الفدرالي كحل لما تعانيه المناطق الشيعية من تفجيرات وأعمال عنف رهيبة.
ـ الفدرالية، هي عملية توحيد لكيانات سياسية، ضعيفة بتفرّقها، ويراد تقويتها من خلال توحيدها فدرالياً، في الشأن المالي والتمثيل الخارجي وتوحيد الجيوش في جيش واحد.
ـ مثلاً، الولايات المتحدة في الأصل كانت كيانات متفرقة، تم توحيدها بهذه الصورة، ونجحت التجربة.
ـ أما في العراق وحتى في سوريا وليبيا فالمسألة مختلفة جداً، فما هو مطروح كمشاريع للفدرلة عبارة عن مشاريع تفتيت الكيانات الموجودة وتمزيقها. والخلاصة أن الفدراليّة تُطرح كي تكون مدخلاً للتوحيد والقوة، أما في المنطقة العربية فهي تُطرح لتساهم في التمزيق والضعف.
ـ إن الاستمرار في نظام المحاصصة والديمقراطية التوافقية، والعمل على التبشير بحل النظام الفدرالي ما هو إلا سعي لتدمير العراق أكثر مما هو مدمَّر حالياً، وما الغزوة الداعشية البعثية الأخيرة إلا رأس الحربة لهذا المشروع الصهيواستكباري، ولذا فإن على كل العراقيين الشرفاء بمختلف طوائفهم وأديانهم وقومياتهم أن يقفوا صفّاً واحداً في مواجهة دعاة الفتنة، وأن ينطلقوا بعناوينهم الإسلاميّة الوحدويّة والوطنيّة في مواجهة العناوين المذهبيّة، لا أعني بهذا أن يتخلّى كلٌّ عن انتمائه وعقيدته، بل أن لا تتحول هذه العناوين إلى عصبيات جاهلية تمثّل الوقود الدائم لإثارة الفتن والحروب الأهلية وتفتح المجال من خلال الوهن الذي يصيب الدولة كي تُغزى من قبل التكفيريين الهمجيين وأمثالهم من الذين لا يريدون الخير للعراق ولا لغير العراق، فإن جُلَّ ما يمتِّع ناظرَيْهم مشاهدُ الخراب والتدمير، وأكثر ما يطربُهم أنينُ الثكالى وبكاءُ الأطفال، ولا يروي ظمأهم إلا دماء الأبرياء، ولا ترتاح نفوسُهم الشيطانية إلا بانتهاك الأعراض وتمزيق الأجساد وحز الرؤوس! ثم إن على جميع العرب أن يعوا خطورة ما هم مُقدِمون عليه، فبعد أن كانت تراودهم أحلام الوحدة الفدرالية بين مصر وسوريا، وبينهما وبين العراق، ثم بين مصر والسودان، أصبحوا يسعون سعياً حثيثاً وبكل ما أوتو من قوة نحو تمزيق أوطانهم إلى أوصالٍ عشائرية وعرقية وطائفية، فأصبح لدينا سودانين، ويخطط البعض لثلاثة مواليد مشوهة في كلٍّ من سوريا وفي ليبيا وفي اليمن وفي العراق.
ـ لقد أجاد الكيان الصهيوني والاستكبار العالمي اللعبة الاستخباراتية مستفيدين من العصبيات الكامنة أصلاً في ذهنية العرب والمسلمين، ليحوِّلوها إلى منطلَق انتقامي وأرضية خصبة لجعل الكيان الغاصب وحدَه في أمانٍ واستقرار بعد أن ذاق مرارة الهزيمة عام 2006، وليحوّلوا ما يحيط به إلى كتلة من نيران الفتن المستعرة التي ما إن تهدأ إحداها حتى يُشعلوا أخرى. فلنعِ خطورة المرحلة، ولنكسر الغرف الضيقة ذات العناوين الطائفية والحزبية والعرقية التي حبسنا أنفسنا فيها، ولنعمل على نبذ كل عناوين التفرقة، ولنكن صادقين مخلصين في دعواتنا التوحيدية.