خطبة الجمعة 22 من شعبان - 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : لإيلاف مجتمعاتنا


ـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ، لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـٰذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [سورة قريش] .
ـ تُذكِّر هذه السورة المباركة القرشيين بنعم الله تعالى عليهم وما تحقق لهم من أمن اجتماعي، و رخاء اقتصادي ومكانةٍ بين العرب، مقارنةً بالمقوّمات الذاتية التي بمفردها ما كانت لتحقق لهم شيئاً يُذكَر.
ـ أمِّيَّة.. موقع جغرافي سئ.. أرض جرداء.. فقر في الموارد الطبيعية.. جو صحراوي قاس.. تنوُّع قبلي وأسري قابل لتفجير صراعات داخلية.. إحاطتهم بمنطقة غير مستقرة أمنياً كما قال تعالى: (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)[العنكبوت:67]، كلها عوامل تدفع إلى تكوين مجتمع فاشل وضعيف.
ـ ولكنَّ يدَ الغيب شاءت أن تجعل لهذه البلدة شأناً عظيماً على الرغم من كل تلك المقوّمات السلبية.
ـ فمن أجل تحقيق مجتمع قوي متماسك يعيش الإلفة والتفاهم في قضاياه الرئيسية (وهذا معنى: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) منَّ عليهم الله تعالى بأمرين:
الأول: وجود بيته الحرام بمكانته عند العرب، وحُرمةِ أرضِه. وهو ما أشارت إليه الآية الثالثة ضمنياً.
الثاني: هدايتهم إلى التوافق على تسيير رحلة الشتاء والصيف التجارية. (وهذا معنى: إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ).
ـ هذه المقوِّمات الإيجابية أفرزت واقعاً إيجابياً، إذ أصبح لمكة سيدٌ وزعيم يوجههم ويرجعون إليه في قراراتهم الحاسمة، وكان عبدالمطلب آخر زعمائها الكبار، ومِن قَبله هاشم وعبد مناف إلى أن نصل إلى (قَصِي).. أما أبوطالب فإنه ورث الزعامة، إلا أن موقفه الإيجابي من دعوة النبي محمد(ص) أفقده الكثير من قوة زعامته.
ـ وأصبح لمكة مجلس لكبار الشخصيات، من مختلف الأسر والقبائل المكية، يساندُ دور زعيم مكة، وهو دار الندوة، الذي أسسه قَصي، تُتداوَل فيه الأمور، ويَرفدُ زعيمَها بالرأي، و يُعينُه في مهامه.
ـ كما وَضع قَصي مجموعة قوانين (وهو أشبه ما يكون بدستور بدائي) نظّم فيه مسؤوليات القبائل والأسر المكية، وحصصهم في إدارة شؤون البلدة، وأموراً أخرى تنظيمية.
ـ ومن الناحية الاقتصادية، توفَّر لهم استقرار وأمن وتنمية: (أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ).
ـ ومن الناحية السياسية والاجتماعية تحقَّق لهم استقرار ووحدة داخلية ومكانة بين العرب: (وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ).
ـ إذاً يمكن تجاوز عقبة التنوع البشري في المجتمع الواحد باختلاف انتماءاتهم القومية أو القبلية إلخ، بل ويمكن تحويلها إلى عامل إيجابي من خلال توظيف خبراتها ومهاراتها المتنوعة من أجل تكامل الدور المجتمعي.
ـ كما أن ضعف الموارد الطبيعية لا يعني بالضرورة أن يُكتَب الفقر على المجتمع، وهكذا بالنسبة إلى سائر المقومات السلبية. وبالعكس فإن امتلاك ثروة طبيعية هائلة لا يعني بالضرورة الرخاء والاستقرار والتنمية.
ـ وإذا كانت هذه المقوِّمات مجتمعةً قد حققت ذلك النجاح للمجتمع القرشي، فإنها من أهم مقومات نجاح أي مجتمع في تكوين نظام سياسي يحقق له الأمن والرخاء، وفقدان بعضها يعرِّض المجتمع إلى الضعف أو الفقر أو الصراع الداخلي ثم التقسيم أو الغزو الخارجي وغير ذلك.
ـ والآن فلننظر إلى حال المجتمعات العربية اليوم.. في سوريا وُجد نظام الحزب الواحد لعقود من الزمن.. لم يضع دستوراً للبلاد إلا في الوقت الضائع.. اختنقت في أجوائها الحريات السياسية.. وضاعت فيها معالم حقوق الإنسان إلا ما ندر.. كل هذا وغيره أوجد أرضية مناسبة لثورة شعبية، ثم لدخول أصحاب الأجندات الخاصة من إرهابيين وقوى إقليمية ودولية على الخط.. والنتيجة هو الدمار الشامل الذي حل بسوريا وألقى بظلاله على المنطقة ككل.. والحال في ليبيا واليمن بصورته الإجمالية لا يختلف عن سوريا كثيراً.
ـ وفي العراق، وعلى الرغم من كل مُقوِّمات نهوض بلد قوي ومتماسك، من ناحية وفرة الموارد الاقتصادية والأيدي العاملة والموقع الاستراتيجي وغير ذلك، إلا أن الحكومات المتعاقبة طوال القرن العشرين، ثم الغزو الأمريكي وتبعاته، والأجندات الإقليمية، والفعل الطائفي، وشرعنة المحاصصة، ومشروع التكفيريين التدميري والسرقات الكبرى، وغياب الأولويات، كلها أدت إلى أن يصل العراق إلى الوضع الذي يرزح تحت وطأته، ويعرّضه إلى خطر التقسيم واستمرار الاقتتال وصور الصراع الداخلي الذي لا يُبقي ولا يَذر.
ـ وأما عندنا في الكويت، فنسأل الله العافية، وأن تتدخل العناية الإلهية لانتشال البلد مما تنزلق إليه نتيجة استحكام الحسد، واستيراد الأزمات، والإصرار على خلق الفتن، وتفشي الخلايا النائمة للإرهاب والتكفير، وغياب أصحاب الرأي الحصيف والقوى الوطنية الغيورة المخلصة، وتغليبِ المواطن المكاسب المادية الآنية على حساب التنمية المستدامة، في جو محموم تنافسي مِن قِبَل البعض على اقتسام الحصص الكبرى من الوفرة المالية التي أنعم الله بها على الكويت في السنوات الأخيرة. إن الله لا يظلم عبادَه.. فهو الذي يَمُنُّ عليهم بالبلدة الطيبة التي تستظل بنِعَم الرب الغفور أمناً وخيرات.. (كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) ولكنَّ عباده هم الذين يختارون أن يُعرِضوا عن هذا كله، وأن يكفروا بنعمه، وأن يحصدوا ثمار طغيانهم: (ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ). ورسالة أخيرة إلى كل الذين يدعمون الإرهابيين التكفيريين بالعَديد والعِتاد والمالِ والإعلام، قديماً قالوا: (سمِّن كلبَك يأكلُك).