خطبة الجمعة 1 من شعبان - 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: العترة الطاهرة


ـ (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[الأحزاب:33].
ـ تحدث القرآن عن ضرورة تطهير النفس في أكثر من آية، من قبيل قوله: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)[المائدة:6] وقوله: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)[التوبة:108]، وقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا)[التوبة:103] .
ـ إلا أن الطهارة التي بلغها العترة من آل رسول الله(ص) لم يبلغ مداها أحد من الناس.
ـ ومن صور هذا التطهير عندهم، أنهم درجوا على الصبر وكظم الغيظ وتجرُّع الغُصص، دون أن يدفعهم الظلم الواقع عليهم إلى ردود فعل تكون على حساب مصلحة الإسلام والأمة الإسلامية.
ـ فحب الذات غريزة قوية، وأكثر الناس في مواقفهم ـ حتى الدينية منها ـ إنما يغضبون لذواتهم، لا للدين، ولذا تجد لهم ـ أحياناً كثيرة ـ ردودَ فعل مخالفة لتعاليم الإسلام، ولمصلحة المسلمين، ولوصايا القرآن والنبي وآله.
ـ وقد شخّص الإمام علي(ع) هذا الخلل بقوله: (إنِّي أريدُكم لله، وأنتم تُريدونَني لأنفسكم).
ـ أما عترة النبي(ع) فإنهم إذا غضبوا لم يغضبوا لأنفسهم، بل للإسلام.
ـ ولذا فقد كظموا غيظهم في كثير من الأحداث التي يعجب فيها الإنسان من طبيعة ردة الفعل الملائكية الصادرة عنهم. وقد وصف الإمام علي(ع) شدة هذه الظروف بأنها: (يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَ يَشِيبُ فِيهَا
الصَّغِيرُ، وَ يَكْدَحُ فِيها مُؤْمِنٌ حَتّى يَلْقى رَبَّه).
ـ أما الموقف الملائكي فتمثل في قوله: (فرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلى هاتا أَحْجى، فَصَبْرَتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذىً، وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا). وفي قوله: (وَوَاللهِ لَأُسَلِّمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً).
ـ بل إنهم لم يحملوا الأحقاد والضغائن تجاه الأيادي التي سعت لقتلهم، فضلاً عن الأمة التي تخاذلت عن نصرتهم.. لاسيما بعد واقعة الطف.. وهذه من أعظم صور الطهارة الروحية.
ـ حين أرسل يزيد إلى والي المدينة الوليد بن عتبة يطالبه بأخذ البيعة له من الحسين(ع)، استشار الوليدُ مروانَ بن الحكم، فقال مروان بحسب نص (الفتوح) لابن أعثم: (اعلم أن الحسين بن علي خاصة لا يجيبك إلى بيعة يزيد أبداً، ولا يرى له عليه طاعة، ووالله أن لو كنت في موضعك، لم أراجع الحسين بكلمة واحدة حتى أضرب رقبته كائناً في ذلك ما كان). ولما حضر الحسين(ع) وطلب أن يرجئه إلى الغد، قال مروان: (أيها الأمير! إنه إذا فارقك في هذه الساعة ولم يبايع فإنك لن تقدر منه ولا تقدر على مثلها، فاحبسه عندك ولا تدعه يخرج أو يبايع وإلا فاضرب عنقه!).
ـ مروان هذا عندما وجد نفسه في موقف صعب جداً على أثر ثورة أهل المدينة على الأمويين قبيل الحرة، لم يجد ملجأ يأوي إليه سوى العترة!
ـ قال الطبري في تاريخه: (وَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بنُ الْحُسَيْن لما خرج بنو أُمَيَّة نحو الشام أوى إِلَيْهِ ثِقلَ مَرْوَان بن الحكم، وامرأتَه عَائِشَةَ بنتَ عُثْمَان بن عَفَّانَ... لمّا أخرج أهل الْمَدِينَة عُثْمَان بن مُحَمَّد مِنَ الْمَدِينَةِ، كلم مَرْوَانُ بن الحكم ابنَ عُمَرَ أن يُغيِّبَ أهلَه عنده، فأبى ابنُ عمر أن يفعل، وكلَّم عَلِيَّ بن الْحُسَيْن، وَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَن، إنَّ لي رحماً، وحُرمي تكونُ معَ حُرمِك، فَقَالَ: افعل. فبعث بحُرَمِه إِلَى عَلِيِّ بن الْحُسَيْن، فخرج بحُرَمِه وحُرَمِ مَرْوَان حَتَّى وضعَهم بينبُع).
ـ وهكذا فإن سيرتهم(ع) تحكي درجة عالية من التمسك بالقيم والمبادئ حتى في أحلك الظروف.
ـ لم يكونوا ككثير من الناس الذين بمجرد أن تتلامع المصالح أمامَ أعينهم، أو ما يتوافق مع أهوائهم، أو تأتي فرصةُ الانتقام بما يُشفي غليلَهم، نسوا القيمَ والمبادئ، والتفُّوا عليها حاملين معهم حزمةً من التبريرات الباردة من أجل إقناع الآخرين بشرعية موقفهم الأعوج.
ـ ولذا قال سيد الشهداء(ع) في يوم عاشوراء: (ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين: بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدودٌ طابت وحجورٌ طهرت وأنوفٌ حميّة ونفوسٌ أبيّة لا تؤثرُ طاعةَ اللئام على مصارعِ الكرام).
ـ إننا لا نريد أن نتغنى بأمجاد العترة الطاهرة لنثيرَ نُقاطَ الفَخار على الآخرين بانتمائنا إلى هذه المدرسة العظيمة، وإنما نريد أنْ نستثيرَ تاريخَهم ومواقفَهم مِن أجل أن تكونَ مُنطلَقاً عملياً ونماذجَ قابلةً للتطبيق في حياتنا بما يقربنا من تحقيق طهارة الروح بضبط النفس وكظم الغيظ متى ما اقتضت ذلك مصلحة الإسلام ومصلحة الأوطان ومصلحة الأمة.. وبالصدق في الالتزام بمبادئ الإسلام وقيم الإنسانية والرحمة التي تقربنا إلى الله، وتفتحُ قلوبَ الناس لتعاليم القرآن ومنهجِ العترة ولمدرسة الإسلام التي عملت أيادي التكفيريين والقوى الاستكبارية والاستخباراتية التي تتلاعب بها وتوجهها على تشويه كل مواطن الجمال فيه، حتى باتت ملامحُه رهينةَ كلِّ صورِ الذبح والاختطاف والقتل العشوائي والتعذيب والهمجية.