خطبة الجمعة 24 رجب - 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: بين الغيب والوهم


(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الأعراف:157].
ـ بعث الله تعالى نبيه محمداً(ص) هادياً ودليلاً إلى الحقائق، مبطِلاً ومحارباً للأوهام والأساطير، إنقاذاً لهم مما كان يمثّل أغلالاً تُثقل حركتهم وتقيّدها بالباطل.
ـ هذه الأوهام والأغلال كانت تسبب الشقاء حتى ليصل الأمر بالأب أن يذبح ولَدَه بعنوان النذر أو التقرب إلى الأصنام: (وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ)[الأنعام:137].
ـ وكانوا يلجؤون إلى الجن باعتبارهم أبناء الله وأن لهم قدرات خارقة، فيكفرون ويأتون بأفحش الأمور كسباً لرضاهم دون نتيجة حقيقية: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)[الجن:6].
ـ وفي المقابل فقد دعانا الله إلى أن نؤمن بوجود عالم الغيب، وامتدح ـ في كتابه العزيز ـ المؤمنين بالغيب: (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)[البقرة:2-3].
ـ وإنما دلنا على أن عالم الغيب من الحقائق وليس من الأوهام والأساطير: العقل والوحي.
ـ فالطريق لمعرفة ما هو من حقائق الغيب وتمييزه عن الوهم والخرافة يتم عن طريق مصدرين:
1ـ العقل، ومثاله الواضح الإيمان بوجود خالق لهذا الوجود.. فالله تعالى من الغيب، وإيماننا به سبحانه إيمان عن طريق العقل في المرتبة الأولى.
2ـ الوحي، كقوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة:285].
ـ وما سوى ذلك يعتبر وهماً: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ)[النجم:23]، فلابد من وجود سلطان وبرهان ودليل قاطع.
ـ هناك استعداد قوي عند الإنسان للإقبال على الخرافة: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)[الأعراف:138].
ـ عَنْ أبي واقد الليثي: (أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (ص) إِلَى حُنَيْنٍ، وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكِفُونَ عِنْدَهَا وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ خَضْرَاءَ عَظِيمَةٍ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ(ص): قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّهَا السُّنَنُ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ).
ـ عن عبد الرحمن بن أبي عبدالله: (سألت أبا عبدالله (ع) عن رجلٍ حلف أن يَنحر ولده، قال: هذا من خطوات الشيطان). لاحظ عودة الوهم والخرافة التي حاربها القرآن! وإلى اليوم هناك من ينذر بهذه الصورة.
ـ والإمام يحيلنا إلى قوله تعالى: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 168-169].
ـ هذا الاستعداد القوي ناشئ من قوة الخيال التي تميز عقولنا عن الكائنات الحية الأخرى، ومن خلالها يتم الإبداع والاختراع وتطوير الحياة في الجانب الإيجابي ومن خلالها تأتي الأساطير والأوهام في الجانب السلبي.
ـ ولذا لابد من أن يكون أحدنا حذراً جداً وهو يتعامل مع هذه القوة، والسبيل هو الاعتماد على السلطان والبرهان والدليل القاطع كما أخبرنا القرآن الكريم لنغلق الباب أمام الكثير من الادعاءات والخرافات والأساطير التي تربك إيماننا وتُثقل حركتنا وتقيّدنا بالأغلال، وتجعلنا أحياناً طُعمة سهلة للدجالين وبائعي الأوهام.
ـ ولنأخذ الأمثلة التطبيقية التالية التي تبين حد ما بين الغيب والوهم:
1ـ الوحي أخبرنا أن بعض الأموات أحياء يُرزقون في عالم البرزخ، وهذا من الغيب، كما في قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[آل عمران:169]. ولكن أن نحصل على مرادنا ونقضي حوائجنا بعقد الخيوط أو بوضع الأقفال على أضرحتهم، فهذا يعد من الوهم.
2ـ الوحي أخبرنا بوجود الجن، وأن عالمهم من عالم الغيب، ولكن الكثير من التصورات المتعلقة بهم مجرد وهم وخرافة: (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِين) [سبأ:14].
3ـ الوحي أخبرنا على لسان رسول الله(ص) بظهور المهدي في مستقبل الزمن ـ والغيب هنا بالمعنى الأعم ـ ولكن أن نرتبط به من خلال كتابة رسالة ورميها في الماء، أو من خلال أدعياء بأنهم وسطاء بينه وبين الناس في عصر الغيبة فهذا يعد من الوهم، وقد جاء في التوقيع المروي عنه: (وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر).
ـ ولذا لابد من وضع سقف للغيب كي نمنع اقتحام الوهم إلى دائرة الغيب، وإلا فإننا سنفتح الباب على مصراعيه لولوج الكثير من الخرافات والأساطير والأوهام فيها، ونفسح المجال أمام شياطين الجن والإنس من الدجالين وذوي النوايا الخبيثة لاستغلال الناس من هذا الباب.