خطبة الجمعة 17 رجب - 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: العجب، الإعجاب والتعصب


(أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا)[فاطر:8].
ـ لا يخفى أن الإنسان قد يصاب بالعُجُب بالمستوى الذي يرى فيه أن كل ما يصدر عنه فهو حسن، وأن كل ما يفكر فيه فهو صواب، وأن مواقفه تأييداً أو رفضاً لا تحيد عن خط العدل.
ـ وقد قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[الكهف:103-104]. وهذا الحسبان قد يكون نتاج نوع من أنواع العصبية للذات.
ـ ولكن هناك حالة أخرى قد يُبتلى بها الإنسان، وهي الإعجاب بالآخر بالمستوى الذي يرى فيه أن كل ما يصدر عنه فهو حسن، وأن كل ما يفكر فيه فهو صواب، وأن مواقفه تأييداً أو رفضاً لا تحيد عن خط العدل.
ـ فيتحول هذا الإعجاب والحب المتعاظم إلى حالة من حالات التعصب للآخر، التعصب الذي يُعمي الإنسان عن ملاحظة السلبيات والأخطاء الصادرة منه.
ـ وهكذا يغدو الانحراف الذي اُبتُلي به الآخر: استقامة.. والظلم الذي يمارسه: عدلاً.. والشر الصادر عنه: خيراً.. والجريمة التي يرتكبها: مبرَّرة وشرعيَّة!
ـ قد لا يكون هذا الآخر فرداً، فقد يكون تاريخاً، تاريخ أمة، أخطأَت ولربما انحرفت، ولكن الإعجاب بها إلى حد التعصب يدفع إلى القول بحرمة نقدها نقداً علمياً موضوعياً، فكل ما صدر عنها مبرر ومشروع!
ـ ولربما ساعد على ذلك بعض النصوص المروية التي تحيط بها علامات الاستفهام من قبيل ما روي عن النبي(ص) أنه قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
ـ فمثل هذا الخبر قد يستعين به البعض لتجريم أي دراسة نقدية لتلك الفترات الزمنية التي تحيط بها هالة من القداسة والعصمة عند البعض نتيجة الابتلاء بالإفراط في الإعجاب والحب ومن ثم التعصب لها.
ـ وهذا لا يعني سوى تقديس الأخطاء.. وتقديس الأخطاء لا يستتبع إلا الفشل!
ـ وهكذا نُعجَب بشخصية من التاريخ، ويتحول الإعجاب إلى تعصب، ونغلف التعصب بالقداسة، ونجعل من العناوين الدينية أداة لمحاربة أية محاولة لقراءة نقدية لسيرة هذه الشخصية.
ـ في السيرة النبوية لابن هشام: (لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ فِي السَّقِيفَةِ وَكَانَ الْغَدُ، جَلَسَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْمِنْبَرِ... فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِاَلَّذِي هُوَ أَهْلُه، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي، الصَّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ...).
ـ وما مقولة الخليفة تلك إلا نتاج تربية النبي(ص) لأصحابه على أن يعيشوا الشفافية وقبول النقد.
ـ ولكن ما ردة الفعل اليوم ـ في العالم الإسلامي ـ لو أراد أحد أن يدرس سيرة الخليفة أبي بكر دراسة علمية ناقدة؟!
ـ وأود أن أؤكد على أمرين:
ـ الأول: أن النقد وسيلة علمية بنّاءة، وليست وسيلة تجريح وإهانة.
ـ الثاني: أن الدراسة النقدية لا تعني بالضرورة الوصول إلى وجود سلبيات في تلك الشخصية (كما لو كانت شخصيةً معصومة)، ولربما لا نصل إلى صورة تاريخية واضحة للظرف الذي أحاط بتلك الشخصية واضطرها إلى اتخاذ الموقف المنتَقد، فلا نحسم الأمر، ونُرجِع علم ذلك إلى الله.
ـ الثالث: أن يتم ذلك من خلال السيرة الصحيحة والمعقولة، لا من خلال أي خبر قد يكون مكذوباً عليها.
ـ الرابع: هذه الدراسة النقدية قد تفتح لنا آفاقاً جديدة إيجابية ترشدنا إلى حقائق غابت عنا بفعل هالة القداسة أو الإعجاب التي حجبت الصورة من خلفها.
ـ الخامس: أنها تسمح بتحويل تلك السيرة إلى دروس عملية، تماماً كما عمل القرآن على تحويل حياة الأنبياء(ع) في المنحى الإيجابي أو السلبي إلى دروس عملية للنبي(ص) وللمسلمين.
ـ في نهج البلاغة برقم 216 تحت عنوان: (ومن خطبة له عليه السلام خطبها بصفين: ... وَإِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالَاتِ الْوُلَاةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ وَيُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ، وَقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الْإِطْرَاءَ وَاسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ، وَلَسْتُ بِحَمْدِ اللَّهِ كَذَلِكَ، وَلَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَرُبَّمَا اسْتَحْلَى النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلَاءِ، فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَإِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا، وَفَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا. فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ، وَلَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي، وَلَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ، فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ، وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي، فَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَأَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى).
ـ وللأسف أن يسعى البعض لرفض هذه الخطبة العظيمة المليئة بالمفاهيم الراقية بذريعة ضعف السند، إما
تعصباً، أو خوفاً من تعارضها مع العصمة. والحال أن مضمونها من دلالات عظمة أمير المؤمنين(ع).
ـ هذه هي مدرسة رسول الله(ص)، هكذا علمهم الإسلام أن يشجّعوا الناس على النقد، وأن يتقبلوا النقد، لا لكي يكون النقد وسيلة هدم، بل أداةً من أدوات البناء والتقويم، حتى ولو كان في مثل ظرف حرب صفين!
ـ وتعال اليوم إلى الواقع الذي نعيشه، فعندما يُعجَب الناس بحاكم من الحكام، أو برجل من رجالات السياسة، أو بشخصية من الشخصيات الدينية، فإنك تجد الإعجاب الذي سرعان ما يتحول إلى تعصُّب يُعمي عن حقائق بيّنة، عندما ينحرف أحدهم عن السبيل، أو يوقِع الظلمَ بالعباد، أو يسعى في الأرض بالفساد، أو يقتل شعبَه، أو ينقلب على عقبيه، أو يخون العهود والمواثيق، أو يتقاعس عن مسئولياته. فلكل شئ تبريراته! من اقتضاء المصلحة، والعنوان الثانوي، وقداسة الموقع وما إلى ذلك، والواقع ليس سوى أن العصبيّة تُعطي مَن تُعصّب له النّاس قداسةَ الخطأ وقداسةَ الظّلم وقداسةَ الباطل وقداسةَ الانحراف وقداسةَ الفساد! إن علينا أن نعُود إلى أنفسنا لنقيّمها على أساس ميزان الحق، ونقيّم الآخرين ممن نحبهم أو نبغضهم من خلال موازين العدل، ونرفع عن عقولنا غشاوة التعصب، وقد قال سبحانه: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).