خطبة الجمعة 10 رجب - 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : كاشف الغطاء


ـ ما قدّمته آنفاً يفتح الباب على مصراعيه لمناقشة موضوع مهم يتعلق بالنظرة إلى حقيقة القيادة الدينية.
ـ لعلنا نجانب الصواب كثيراً عندما نتصور أن الفقيه عندما يبرع في مجاله التخصصي في الفقه والأصول ومقدمات الاستنباط، فإنه سيكون مؤهلاً ليكون قائداً ومرجعاً فكرياً وسياسياً للأمة، وبالتالي ليكون مرجعاً بالمعنى الأعم للمرجعية.
ـ فتارة نتحدث عن مرجعية في الأحكام الشرعية، تعطينا كليات الأحكام، ثم تحيلنا إلى أهل الخبرة لدراسة الموضوعات وتطبيقات تلك الأحكام.. وتارة نتحدث عن مرجعية شاملة تواجه الإشكالات الفكرية والتحديات التي تواجهها الأمة على مستوى القضايا السياسية والاجتماعية والأخلاقية وغير ذلك، بالإضافة إلى دورها العلمي المتخصص.
ـ قسم من الفقهاء رفدوا ويرفدون الحوزة العلمية والمجتمعات الإيمانية بعملهم التخصصي، ولهم كل الإجلال والاحترام والتقدير، وما قاموا به لا يجوز انتقاص أهميته بحال.
ـ لكن الاهتمام بقضايا الأمة والمواجهة الفكرية والعملية والخروج من الدائرة الخاصة والمحيط المذهبي والانفتاح على المجتمعات الإسلامية، ولربما إلى أوسع من ذلك يعد أمراً آخر، وليس بمقدور كل فقيه أن ينهض بهذا الدور، إذ أنه يحتاج إلى مؤهلات خاصة، تماماً كما قدّمنا الحديث عن داود(ع) ثم أمير المؤمنين علي(ع).
ـ وسأقدم المرجع الرسالي الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (ت1373هـ) كنموذج تطبيقي على ما أسلفت.
1ـ عاش الشيخ قضايا الساحة الإسلامية السياسية بفاعلية، وكانت القضية الفلسطينية على رأس الأولويات، وقد دُعي إلى المؤتمر الإسلامي في القدس عام 1931، والمخصص لمواجهة المشروع الاستكباري لتكوين دولة الكيان الصهيوني.
ـ ولم تأت دعوته إلى هذا المؤتمر من فراغ بل جاءت نتيجة ما اشتُهر عنه من حضور قوي في الساحة وحركته الدائبة في المنطقة لتوحيد صفوف أبنائها، ومواجهة كل المشاريع الاستكبارية فيها، والمشاركة في الجلسات الحوارية التي كانت تُعقد مع المسيحيين بلبنان، ومع علماء المذاهب الإسلامية بمصر.
ـ وكانت خطبته الارتجالية في القدس قد أبهرت الحضور مضموناً وأدباً وحكمةً ورساليةً، وقُدِّم لإمامة الجماعة في أكثر من عشرين ألفاً ممن حضروا الافتتاح، في حدث عظيم قل نظيره.
ـ كما كانت مسألة التقريب بين المذاهب والوحدة الإسلامية من أولوياته في العمل الإسلامي وهو القائل: (بُني الإسلام على دعامتين: كلمةُ التوحيد، وتوحيدُ الكلمة).
ـ ولذا وقف الشيخ في مقابل الإثارات الطائفية، وعندما تحرك الشعب العراقي آنذاك ضد المستعمر البريطاني وأذنابه، حرّك هؤلاء الموضوع الطائفي، فطُبع كتاب ضد الشيعة بعنوان (العروبة في الميزان) يتهم فيه المؤلف الشيعة بأنهم ليسوا عرباً، وأن الفئة القليلة من العرب الرافضة ولاؤهم للخارج وليس لأوطانهم.
ـ أثار الكتاب ضجة كبيرة، وقام أحدهم باسم السيد الكفائي بكتابة كتاب يتهجم فيه على أهل السنة وعلى بعض رموزهم التاريخية، ولما عزم على طباعته، تم اعتقاله، وتصاعدت مطالبات بإعدامه.
ـ واشتعلت فتنة بين الشيعة والسنة، ولم يستدرج إليها الشيخ، بل تعامل معها بحكمته المعهودة، ووجدت
الحكومة العراقية نفسها في ورطة وصعوبة في تهدئة الأوضاع، فكتب كاشف الغطاء رسالة إلى رئيس الوزراء كل ما فيها هو: (إلى فخامة رئيس الوزراء السلام عليكم. الكتاب يُحرق، والكفائي يُطلق، وإلا .....).
2ـ كان رحمه الله قوياً في دينه، شجاعاً في مواقفه، فكان يدعم كل شكل من أشكال العمل المناهض للسياسة الاستعمارية، ويدعو إلى التحرر والاستقلال، وكان اشتراكه في الجهاد ضد جيش الاحتلال البريطاني في العراق، إبان الحرب العالمية الأولى خير شاهد على مانقول.
3ـ امتاز الشيخ محمد حسين بالوعي، فلم تنطل عليه مخططات المستكبرين، ومن ذلك أنه لما أريد أن يقام مؤتمر في لبنان بعنوان الحوار الإسلامي المسيحي والبحث عن المشتركات بين الديانات الإلهية والقيم العليا والسامية بين المسيحيين والمسلمين، ووقف موجة الإلحاد، أدرك الشيخ أن الرعاية الأمريكية البريطانية لهذا المؤتمر لم تأت من فراغ، وأن وراء الأكمة شئ، ويتمثل في رغبتهما في توظيف العلماء المسلمين لمواجهة المد السوفييتي في المنطقة، وبذريعة مواجهة الشيوعية.
ـ ولم يقبل الشيخ الدعوة، ورد عليها بكتابة كتابه:(المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون)، وبيَّن فيه أن الحيلة لا تنطلي عليه وأنه متنبه إلى أن القوى الاستعمارية تقف وراء المشروع، وأنه من وسائل السيطرة على بلاد المسلمين بصورة ماكرة، وكشف نفاقهم في التعامل مع القضايا الإنسانية من قبيل القضية الفلسطينية.
ـ قال رحمه الله:
كم نَــكبة تُحطّم الإسلام والعربْ والإنكليزُ أصلُها فتّش تجدهم السببْ
فكلُّ ما في الأرض من ويلاتِ حَرْب وحَرَب هم أشعلوا نيرانَها وصيَّروا الناسَ حطَب
4ـ لم يقتصر الشيخ آل كاشف الغطاء في ما قدمه من معارف للأمة على الجانب العلمي التخصصي، بل صنّف ما يربو على 80 مؤلفاً، بين ما هو تخصصي وبين ما خاطب به المثقفين وأبناء الأمة، لا بطرح قضايا ترفية لا تقدم معرفتها ولا تؤخر، أو نظرية تحلق في عالم الفرضيات، بل كان رسالياً هادفاً في ذلك.
ـ فمن بينها كتاب (تحرير المجلة)، فحيث كان القضاء الرسمي للدولة حينذاك يعتمد على كتاب (مجلة الأحكام العدلية) وفق المذهب الحنفي، ويشتمل على 1850 مادة ترتبط بالعمل القضائي، فقد ارتأى الشيخ كاشف الغطاء أن يقدّم كتاباً فقهياً موازياً على طبق الاجتهاد في مذهب أهل البيت(ع)، وبنفس مواد هذه المجلة مع الاستدلال بالقرآن والحديث في 6 مجلدات.
ـ وكتب (الدين والإسلام) أو (الوحدة الإسلامية)، وعرض فيه رؤاه حول الإسلام وشريعته وتطبيق ذلك، ومسؤوليات الحكومة الإسلامية، والتنظير للعلاقة بين المسلمين وغير ذلك من قضايا مهمة وحساسة.
5ـ كانت للشيخ كاشف الغطاء أفكار وأطروحات في إصلاح الحوزات وإدارة المرجعية، وانطلق في ذلك من اعتباره المرجعية الدينية مسئولية إلهية كبيرة، تلخّص صورتها ـ بحسب كلماته ـ الآية الشريفة: (يا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) ص:26.
ـ رحم الله هذا العالم الرباني والقائد الرسالي الذي لا يجود الزمان بأمثالهم إلا نادراً.. فإذا جاد بهم لم تعرف الأمة قيمتهم إلا حين يودّعونها مظلومين!