خطبة الجمعة 10 رجب - 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الأولى : بين داود وعلي عليهما السلام


ـ (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ، وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) [ص:17-20].
ـ تقدم هذه الآيات المباركة صورة رائعة لنبي الله داود(ع) هي مزيج من الإيمان الراسخ، والعبودية الحقة، والقوة في إحقاق الحق، والصلابة في مواجهة الباطل، والروحانية المتسامية، والحكمة في التفكير، والمنطق الذي يأسر القلوب، والقدرة على الحكم وإدارة شؤون العباد.
ـ لقد كان هذا النبي الكريم(ع) صاحبَ الزبور، الكتاب المفعم بالدعاء والتسبيح، وكان هو من الروحانية في ابتهالاته وخشوعه وصوته ما جعل الجبالَ تهتز معه في تلك اللحظات، والطيرَ تجتمع عنده، تستمع له في خضوع وانسجام.
ـ إلا أن تلك الروحانية العظيمة التي تميّز بها هذا النبي الكريم لم تكن لوحدها كفيلة بأن تؤهله لكي يقوم بمهمتي القيادة الدينية من خلال موقع النبوة، والقيادة الدنيوية من خلال موقع الملك.
ـ ولذا أكدت الآيات السابقة على أن الله تعالى قد منّ عليه بعدة مؤهلات أكملت فيه صورة النبي القائد، بالإضافة إلى الجانب الإيماني والروحي التي امتاز بها، والإمكانات العَددية والعتادية التي توفرت له، وهي:
1ـ القوة والشجاعة التي تتمثل فيها صلابته وشدّته في الحرب وفي مواجهة الفتن.
2ـ الحكمة في التفكير والبصيرة في الوعي والإحاطة بمتطلبات وظروف الواقع الذي كان يعيشه.
3ـ التحلي بقدر كبير من الفصاحة والبلاغة والأدب والأسلوب الجاذب والقول الحاسم الذي يستطيع من خلاله التأثير على الجماهير.
ـ لقد كانت تلك العناصر حاسمة في تأهيله للنهوض بمهمتي القيادة الدينية كنبي، والقيادة الدنيوية كملك.
ـ وبقي شئ في البين، وهو الارتقاء به إلى مستوىً من العدل يستحق من خلاله أن يكون خليفة الله في الأرض بحق، ولذا أدخله الله تعالى في تجربة عملية ارتقى من خلالها إلى ذلك المستوى، فقال له تعالى حينئذ: (يا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)[ص:26].
ـ وهكذا كان أميرُ المؤمنين علي(ع) خليفةَ الله في الأرض بحق.. بغض النظر عن عنوان النبوة التي خُتمت بمحمد(ص).. فقد تحلى علي(ع) بكل تلك المقومات.
ـ إن أردتَ الحديث عن تجلي العبودية لله في شخصيته.. فمن كعلي؟ وهو الذي كانت ترتعد فرائصه وهو في خلوة الدعاء ويبكي حتى يُغشى عليه، حتى قالت الزهراء(ع) في ذلك: (هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله).
ـ وإن أردتَ الحديث عن القوة والشجاعة فمن كعلي وهو أسد الله الغالب الذي قيل فيه: (ما فر في موطن قط و لا ارتاع من كتيبة و لا بارز أحداً إلا قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت إلى ثانية، و كانت ضرباته وتراً، إذا علا قد، و إذا اعترض قط، و لا دُعي إلى مبارزة فنكل، وكان يقول: ما بارزت أحداً إلا كنتُ أنا و نفسه عليه، و كانت العرب تفتخر بوقوفها في مقابلته في الحرب).
ـ وأما الحكمة وفصل الخطاب فحسبك أن تنظر في نهج البلاغة، وهو لا يمثل إلا شيئاً يسيراً من فيوضاته في الحكمة والبلاغة والأدب، وقد قال: (إنا لأمراء الكلام، وفينا تنشبت عروقه، وعلينا تهدلت غصونه).
ـ ثم ما أدراك ما عدل علي(ع)؟ وقد قال مبيناً سعة أفقه في موضوع العدل: (و اللَّه لأن أبيت على حسك السَّعدان مسهَّداً، أو أجرّ في الأغلال مصفّداً، أحبُّ إليّ من أن ألقى اللَّه و رسولَه يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشي‏ء من الحطام.. والله لو أعطيتُ الأقاليم السبع بما تحتَ أفلاكِها على أن أظلم نملةً أسلبُها جِلب شعيرةٍ ما فعلته).
ـ إنها المقومات التي توافرت في أمير المؤمنين(ع)، ونهض من خلالها لتحمل مسئولياته في موقع القيادة الدينية حيث أوصى النبي(ص) المسلمين بقوله: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي).. والقيادة الدنيوية حيث أوصى النبي(ص) قائلاً: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه)..