خطبة الجمعة 26 جمادى1 - 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : العترة وصيانة العمل الصالح


ـ روى الطبراني (عَنْ أَبِي سَعِيد، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(ص): إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ).
ـ ذكرت في الأسبوع الماضي أن النبي(ص) كان قلقاً من دخول المفاهيم المغلوطة على المستوى الفكري والعملي والعبادي والأخلاقي، ولذا جعل من بين مهام عترته(ع) الحفاظ على أصالة تلك العناوين.
ـ بعض هذه المفاهيم العملية والأخلاقية طرحها القرآن بعرض تاريخي لحالة مذمومة، من قبيل: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)(الحديد:27) كتحذير من تكرار ذات الأمر، وإن كان بنيّة حسنة.
ـ فقد كانت هناك دعوة إلهية للاهتمام بالجانب الروحي في مواجهة كل الطغيان المادي والخلود إلى الأرض الذي عاشه اليهود، فاستغرقوا في ذلك متناسين الهدف الذي من أجله طُلب منهم ذلك، فتحولت الوسيلة إلى غاية، فاختاروا العزلة، وعاشوا السلبية في حياتهم تجاه الواقع، واختلقوا لأنفسهم مفاهيم وأساليب خاصة للرهبنة حتى تحولت إلى وسيلة للفسوق عن تعاليم الله بعد أن أرادوها وسيلة للقرب منه.
ـ ولنلحظ نقطة مهمة تتعلق بهذه الآية، فقد جاءت بعد قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ، ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا ..)[الحديد:25-27].
ـ وكأنها تقول: هذه هي مسئوليات الأنبياء، وهذا هو منهجهم الذي يجب أن تلتزموه، وما اختزال تلك المسئوليات في الرهبنة إلا انحراف وفسوق وضلال.
ـ ومع هذا ظهرت بوادرها على عهد النبي(ص)، فعالجها بصورة حاسمة وواضحة وعلنية، وهذه العناصر مهمة في المعالجة، فعن الإمام الصادق(ع): (إن ثلاث نسوة أتين رسول الله(ص) فقالت إحداهن:
إن زوجي لا يأكل اللحم، وقالت الأخرى: إن زوجي لا يشم الطيب، وقالت الأخرى: إن زوجي لا يقرب النساء، فخرج رسول الله(ص) يجر رداءه، حتى صعد المنبر فحمدالله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللحم ولايشمون الطيب ولا يأتون النساء، أما إني آكل اللحم وأشم الطيب وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني).
ـ وهذه هي البداية، والتتمة في مثل سلوك الربيع بن خثيم الذي اختار ترك علي(ع) ففي ساحة المعركة في صفين والتوجه إلى ثغر بعيد ثم اختيار العزلة والسكوت حتى ندم على قولة حق قالها في شأن الحسين.
ـ ولما ظهرت مجدداً على عهد أمير المؤمنين(ع) سارع لإرجاع الأمور إلى نصابها، فهذا الربيع بن زياد اشتكى عنده(ع) على أخيه عاصم، قال بأنه: (لبس العباء وترك الملاء، وأنه قد غَمّ أهلَه، وأحزَن وُلدَه بذلك، فقال(ع): عليَّ بعاصم بن زياد. فجيء به، فلما رآه عَبس في وجهه، فقال له: أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت وُلدَك؟ أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أخذك منها؟ أنت أهون على الله من ذلك! أوليس الله يقول: [وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ، فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ]؟ أو ليس الله يقول: [مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ]؟ فبالله لاَبتذالُ نِعمِ اللهِ بالفعال أحبُّ إليه من ابتذالِها بالمَقال، وقد قال الله عز وجل: [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]).
ـ وأحب أن أؤكد مجدداً على أثر البعد عن مفاهيم القرآن وتعاليمه في ظهور مثل هذا الصور التي تكون أحياناً مَلَكية أكثر من الملك، وبتصور أصحابها أنهم يتقربون إلى الله بذلك، بينما هم يزدادون بُعداً.
ـ وهذا ما دفع الأئمة(ع) لاحقاً إلى مواجهة أفكار التصوف وسلوكيات المتصوفة بكلمات حاسمة وبيّنة وبموقف حازم، وإن حاولوا هم ربط أنفسهم بأهل البيت(ع) بصورة أو بأخرى، ولكن أهل البيت لا يجامِلون ولا يُخدَعون في دينهم.
ـ ومن القصور أن نتصور أن الموقف من الصوفية ينحصر في بعض شطحاتهم السلوكية من قبيل الرقص وطرق ترديد الأوراد، بل المسألة تتعداها إلى جوانب إيمانية وفكرية وأخلاقية وشرعية عديدة.
ـ وهذا ما نلحظه في الخبر التالي المروي عن الحسين بن أبي الخطاب: (كنت مع أبي الحسن الهادي(ع) في مسجد النبي(ص)، فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري، وكان بليغاً وله منزلة مرموقة عند الإمام(ع)، وبينما نحن وقوف إذ دخل جماعة من الصوفية المسجد فجلسوا في جانب منه، وأخذوا بالتهليل، فالتفت الإمام(ع) إلى أصحابه فقال لهم: لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخداعين، فإنهم حلفاء الشياطين، ومخربو قواعد الدين، يتزهدون لإراحة الأجسام، ويتهجدون لصيد الأنعام، يتجوعون عمراً حتى يديخوا للإيكاف حُمُراً) أي يذلون أنفسهم كي يوقعوا المغفلين في شراكهم والآثام (لا يهللون إلا لغرور الناس، ولا يقللون الغذاء إلا لملئ العساس واختلاس قلب الدفناس) الأغبياء والحمقى (يكلمون الناس بإملائهم في الحب، ويطرحونهم بإدلائهم في الجب، أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنم والتغنية، فلا يتَّبعهم إلا السفهاء، ولا يعتقد بهم إلا الحمقى، فمن ذهب إلى زيارة أحدهم حياً أو ميتاً فكأنما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان، ومن أعان واحداً منهم فكأنما أعان معاوية ويزيد وأبا سفيان. فقال له رجل من أصحابه: وإن كان معترفاً بحقوقكم؟ قال: فنظر إليه شبه المغضب، وقال: دع ذا عنك، مَن اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا، أما تدري أنهم أخس طوائف الصوفية؟ والصوفية كلهم من مخالفينا، وطريقتهم مغايرة لطريقتنا، وإن هم إلا نصارى ومجوس هذه الأمّة، أولئك الذين يجتهدون في إطفاء نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون).
ـ أكتفي بهذا المقدار، والأمثلة في هذا الإطار عديدة، لكن أرجو أن تكون الصورة قد توضحت بشكل إجمالي.. والغاية أن ندرك أن الالتزام بأهل البيت(ع) لا يقتصر على القول بولايتهم، والاعتقاد بإمامتهم، إذ لابد من التمسك بمنهجهم في معالمه وفي خطواته العملية، لأننا نعتقد أنهم مثّلوا خط الهداية الفكرية والعملية والأخلاقية التي جاء بها القرآن، فكانوا الضمانة لنا كما قال النبي(ص): (إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدي).