خطبة الجمعة 19جمادى1 - 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: العترة وصيانة الفكر الإسلامي


ـ في مسند أحمد عن زيد بن أرقم عن رسول الله(ص): (إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنْ الآخَرِ، كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي).
ـ كان النبي(ص) قلقاً من دخول المفاهيم المغلوطة على المستوى الفكري والعملي والعبادي والأخلاقي، ولذا جعل من بين مهام عترته(ع) الحفاظ على أصالة تلك العناوين، وهو من دلالات قوله: (لَنْ تَضِلُّوا).
ـ وكان من بين الوسائل التي اعتمدتها العترة، تقديم المعايير التي من شأنها أن تساهم في الحفاظ على هذه الأصالة، و ردّ ما هو دخيل، ومن أمثلة ذلك ما جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع): (ما لم يوافق من الحديثِ القرآنَ فهو زخرف). وعن الباقر(ع): (لا تُصدِّق علينا إلاّ ما وافق كتابَ الله وسنّةَ نبيه (ص)). والمقصود من السنة هنا ما ثبت صحته عن النبي(ص) من سُنته.
ـ كما عملت العترة على تشخيص مواطن الخلل وتحديد موضوعاتها.. فكانت هناك على المستوى الفكري عدة تحديات، من بينها عقيدة الإرجاء (بمعنى أنه لا تضر مع الإيمان معصية). وقد قاوم الأئمة(ع) بشدة هذه البذرة الأموية، ولكنها للأسف وجدت طريقها إلى الشيعة وتسربت إلى متبنياتهم.
ـ وهذا ما دفع الباقر(ع) إلى أن يقول بكلامٍ واضح لا مجال فيه للتأويل واللف والدوران: (أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه... لا تذهبنّ بك المذاهب، حَسْب الرجل أن يقول: أحب علياً وأتولاه، ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال: إني أحب رسول الله(ص)، فرسول الله(ص) خيرٌ من علي(ع)، ثم لا يَتّبع سيرتَه ولا يعمل بسنتِه، ما نفعه حبُّه إياه شيئاً، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بَين الله وبين أحدٍ قرابة، أحبُّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمُهم عليه أتقاهم وأعملُهم بطاعته. يا جابر، فوالله ما يُتقرَّب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحدٍ من حجة، مَن كان لله مطيعاً فهو لنا وَليُّ، ومَن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، ولا تُنال ولايتُنا إلاّ بالعمل والورع).
ـ كما ظهر الغلو في أهل البيت(ع) بمراتب وأصناف وبدوافع مختلفة، فكرر أهل البيت(ع) موقفَهم الحازم والحاسم من مثل هذه الانحرافات الفكرية، ببيان حقيقة الأمور وبالبراءة من أصحاب تلك المقولات الباطلة.
ـ ومن ذلك ما رواه عبدالرحمن بن كثير: (قال أبوعبدالله(ع) يوماً لأصحابه: لعن الله المغيرةَ بنَ سعيد، ولعن الله يهوديةً كان يختلف إليها يتعلم منها السحر والشعبذة والمخاريق، إن المغيرة كذب على أبي(ع) فسلبه الله الإيمان، وإن قوماً كذَبوا عليّ. ما لهم؟ أذاقهم الله حرَّ الحديد. فوالله، ما نحن إلا عبيدُ الذي خلقنا واصطفانا، ما نَقدِرُ على ضُر ولا نفع، وإنْ رُحمنا فبرحمته، وإن عُذِّبنا فبذنوبنا، والله ما لنَا على الله مِن حُجة ولا معنا من الله براءة وإنا لميتون ومقبورون ومُنشَرون ومبعوثون وموقوفون ومسؤولون ويلهم! ما لَهم لعنهم الله؟! لقد آذوا الله وآذوا رسولَه(ص) في قبره وأميرَ المؤمنين وفاطمةَ والحسنَ والحسينَ وعليَّ بن الحسين ومحمدَ بن علي صلوات الله عليهم، وها أنا ذا بين أظهركم لحمُ رسول الله وجلدُ رسول الله صلى الله عليه، أبيتُ على فراشي خائفاً وجِلاً مرعوباً، يأمنون وأفزع، ينامون على فُرُشهم وأنا خائفٌ ساهرٌ وَجِل، أتقلقل بين الجبال والبراري؟ أبرأ إلى الله مما قال فيّ الأجدعُ البرادُ عبدُ بني أسد أبوالخطاب لعنه الله .واللهِ لو ابتلوا بنا وأمرناهم بذلك لكان الواجب أنْ لا يقبلوه، فكيف و هم يروني خائفاً وجِلاً؟ أستعدي اللهَ عليهم وأتبرأ إلى الله منهم. أشهِدُكم أني امرؤٌ ولَدني رسولُ الله (ص) وما معي براءة من الله، إنْ أطعتُه رحمَني وإن عصيتُه عذَّبني عذاباً شديداً أو أشدَّ عذابه).
ـ ومن بين التحديات الفكرية اعتماد معطيات الفلسفة اليونانية معياراً في تأويل النص الديني الصريح.
ـ بالطبع، لا اعتراض على الفلسفة وفق مفهومها العلمي، أي إعمال العقل لفهم الأمور وتحليلها وكشف أسبابها ودلالاتها، وهذا مما يتوافق مع الإسلام. وللكاظم(ع) وصية راشعة لهشام بن الحكم، ومنها قوله: (يا هشام، ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله، فأحسنُهم استجابةً أحسنُهم معرفةً لله، وأعلمُهم بأمر الله أحسنُهم عقلاً، وأعقلُهم أرفعُهم درجةً في الدنيا والآخرة.. يا هشام، إن لله على النّاس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأمّا الباطنة فالعقول).
ـ ولكن الكلام في اعتماد معطيات الفلسفة اليونانية كمعيار لفهم الدين وتأويله، وهو ما قد يتصادم مع أسس فكرية إسلامية نُصّ عليها بوضوح في القرآن، واضطر بعض الفلاسفة المسلمين إلى رفضها أو تأويلها بلا مبرر، سوى أنها تتعارض مع قاعدة فلسفية يونانية أو مع منهجهم الاستدلالي القاصر.
ـ الفيلسوف الإسلامي ابن سينا أقر بأن معطيات منهج الاستدلال الفلسفي المعتمد عنده تتعارض مع الاعتقاد بأن المعاد جسماني، ولكنه اعتبر أن الالتزام بالنص الديني القطعي المبلَّغ من قبل الغيب والقاضي بجسمانية المعاد يضطره إلى التصديق بهذه الحقيقة.
ـ وقد قدم المبرر لذلك فقال: (الوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة البشر، ونحن لا نعرف من الأشياء إلا الخواص واللوازم والأعراض، ولا نعرف الفصول المقوّمة لکل واحد منها). وهذا موقف يسجل لهذا العالِم.. وفي المقابل هناك نماذج كثيرة رفضت الأخذ بالنص الديني، واعتمدت النتيجة الفلسفية.
ـ لا يمكن وقوع التعارض بين الوحي وبين العقل والعلم، ولكن الخلل قد يكون في عدم ثبوت أو صراحة النص الديني، وأحياناً في خطأ المنهج الاستدلالي العقلي أو وقوع الخطأ في النتيجة لخطأ في المقدمات.
ـ وقد رويت عن بعض الأئمة(ع) كلمات سلبية تجاه الفلسفة، فإن صحّت، فهي إنما كانت تواجِه الخلل في تلك المناهج ونتائجها، وقد روي عن الصادق(ع): (فتبّاً وتعساً وخيبة لمنتحلي الفلسفة).
ـ كما نجد عدداً من أصحابهم قد انبروا للرد على الفلاسفة، كهشام بن الحكم، وهشام بن سالم، ومؤمن الطاق، و أّلف الفضل بن شاذان كتاب (الرد على الفلاسفة).
ـ وهكذا قام جمع من علمائنا في عصر الغيبة بذات الدور، فلقطب الدين الراوندي كتاب (تهافت الفلاسفة)، وللشيخ المفيد كتاب: (جوابات الفيلسوف في الإتحاد). وكتاب (الرد على أصحاب الحلاج)، ولابن زُهرة الحسيني كتاب في (نقض شُبَه الفلاسفة).
ـ هذا كان جانباً من حديثنا عن دور أئمة أهل البيت(ع) في تحقيق مضمون وصية النبي(ص) والقاضية بأن التمسك بهم ضمانةُ الحفاظ على أصالة الإسلام، وعدم الضلال. وللحديث تتمة بإذن الله حول هذا الدور في المجالات الأخرى.