خطبة الجمعة 12جمادى1 - 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : رعاية كبار السن


ـ (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)[الروم:54]. وقال تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي)[مريم: من الآية4] .
ـ عندما يدخل الفرد في سن 60-65 فما بعد، فإنه يبدأ بفقدان بعض قدراته تدريجياً، من قبيل: (السمع ـ البصر ـ النطق ـ التركيز ـ الذاكرة ـ الحركة ـ التوازن) كما ويكون عرضة للشعور بآلام المفاصل وتكلس الفقرات وهشاشة العظام، ولربما يضاف إليها بعض الأمراض المزمنة كالسكر وارتفاع الضغط.
ـ هذه التغيرات الجسدية والآلام والأمراض كفيلة بأن تؤثر سلبياً على نفسية كبير السن، إلا أنها ليست الوحيدة التي تعمل على ذلك، بل تتداخل معها عوامل أخرى مثل:
1ـ الإحساس ببلوغ خريف العمر وقرب الرحيل عن هذه الدنيا.
2ـ الشعور بالتحول إلى ما يشبه العالة على الغير.
3ـ تقلص أو فقدان القدرة على مزاولة النشاط الديني أو الاجتماعي أو العمل التطوعي الذي اعتاد عليه، ويمثل بالنسبة إليه عاملاً مهماً في الثقة بالنفس والشعور الإيجابي بالعطاء والتفاعل مع الحياة من حوله.
ـ ومن هنا، فإن كبير السن بأمس الحاجة إلى الرعاية النفسية كما هو بحاجة إلى الرعاية الجسدية، لاسيما بلحاظ أن الحالة النفسية من شأنها التأثير إيجاباً أو سلباً على الصحة الجسمانية.
ـ في الولايات المتحدة، ومع تفشي حالة تخلي الأبناء عن مسؤولياتهم تجاه الوالدين المسنين، تم اتخاذ حزمة من الإجراءات الساعية للتخفيف من آثار هذه المشكلة الاجتماعية، ومن بينها:
1ـ إصدار قوانين وتشريعات لحماية المسنين وتنظيم عمل المؤسسات الخاصة برعايتهم.
2ـ منح صلاحيات الضبطية القضائية للجهات المتخصصة لتفتيش ورقابة مساكن وأماكن إيواء المسنين.
3ـ إنشاء دور الرعاية الخاصة بالمسنين، وفي الولايات المتحدة أكثر من 2000 دار رعاية.
4ـ التشجيع على العمل التطوعي لتقديم الرعاية للمسنين في منازلهم، وتم تسجيل 60 مليون متطوع يعمل كل فرد منهم ساعتين أسبوعياً في هذا المجال، مما وفر على الموازنة العامة ما قيمته 300 مليار دولار!
ـ وعلى الرغم من كل هذه الجهود المبذولة إلا أن الدراسات تشير إلى أن 36% من نزلاء دور الرعاية يشتكون من تعرضهم إلى أنواع من الإيذاء الجسدي والنفسي، ومن بينها:
1ـ اللوم والعقاب على بطئ الحركة وارتكاب الأخطاء.
2ـ حرمانهم من أنشطة اعتادوا على ممارستها بحجة حمايتهم من الإصابات.
3ـ فرض روتين يومي واحد.
4ـ التحدث معهم بلغة الأطفال، أو بصوت غير مسموع، أو بجمل غير واضحة.
ـ وقد تحدث القرآن عن أهمية توفير ما يفوق الرعاية الجسدية والنفسية لهم، وذلك حيث قال عز اسمه: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيراً، رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً) [الإسراء:23].
ـ من خلال دلالة الآية والتوجيهات الحساسة التي يتضمنها مصطلح (الإحسان) فإن المطلوب:
1ـ إدارك المنطلق الأساسي في هذا الأمر بربطه بتوحيد الله في العبادة، فإذا كان الله هو السبب الأعمق في وجود الفرد، فالوالدان هما السبب المباشر لذلك، وإذا كان الله هو الذي أنعم عليه بكل النعم، فإن الوالدين قد عملا بكل ما لديهما من جهد في سبيل استفادته من تلك النعم.
2ـ الإحسان إليهما بالكلمة واللمسة واللفتة والحركة، وبالاحتضان الروحي الذي يحسان به عميقاً، كاحتضانهما له في طفولته وما ينطوي عليه من عاطفة وحب وحنان.
3ـ التنبيه إلى أن اختلال المزاج وسوء الخلق وضيق الصدر عند الوالدين المسنين سينعكس على تصرفاتهما التي تتخذ جانباً سلبياً ضد الناس الذين يعيشون معهما، لا سيما أولادهما، مما قد يؤدي إلى الشعور بالضيق من ذلك، وبالتالي صدور ردّ فعل سلبيٍّ وإساءة إليهما.
4ـ تقديم نماذج عملية على أقل صور ردود الفعل السلبية من الأولاد، فإذا لم يجز ذلك، فلا يجوز ما هو أشد منه، إذ يحرم الأقوى في الإيذاء إذا كان الأضعف محرماً. وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق(ع) أنه قال: (لو علم الله لفظةً أوجز في ترك عقوق الوالدين من أفّ لأتى بها).
5ـ مراعاة الأسلوب الأمثل في الحديث معهما فلا يشتمل على الغلظة أو الزجر أو الصوت الشديد القاسي.
6ـ الأمر باعتماد الكلمة الحلوة اللطيفة التي تحمل الحب والعطف والحنان وتوحي بالاحترام والإعزاز والكرامة، والمقترنة مع الابتسامة المشرقة والنظرة الحنونة.
7ـ التواضع والخضوع قولاً وفعلاًً، والشعور بالذل الناشىء من الشعور بالرحمة، وتحمل ما لا يتحمله من غيرهما، والتنازل عمّا لا يتنازل عنه للآخرين.
8ـ ضرورة تحويل هذا الشعور بالرحمة إلى استذكار للتاريخ الشخصي لوالديه معه، تعباً وسهراً وتضحيةً وعطفاً وحفظاً، من أجل أن يربيا له جسمه وعقله، ليشعر بالتالي بالحنان، وهو يشهد هذا الضعف الذي يعانيان منه، ويستذكر أنه كان أحد أسباب ذلك، فيبتهل إلى الله ليرحمهما ويرعاهما ويحفظهما.
9ـ أهمية استحضار الشعور بالرقابة الإلهية الدائمة لظواهر الأمور وخفاياها، وأنها مسجّلة ومحفوظة، وسيحاسَب عليها. وهو ما سؤمّن شيئاً من الرقابة الذاتية التي يتحقق من خلالها الإحسان إلى الوالدين.
10ـ الاعتقاد الراسخ بأن كل عمل صالح يقوم به الإنسان فهو بعين الله، وأن الله لا يظلم عباده شيئاً، وأنهم إن أحسنوا فسيشملهم برعايته وعنايته ورحماته وألطافه في الدنيا والآخرة.
ـ إن معاناة المسنين ليست مقصورة على المجتمعات الغربية أو غير المسلمة، بل إن الأرقام تدل على أن الأمور تتفاقم سلبياً في مجتمعاتنا الإسلامية، الأمر الذي يستدعي وقفة قانونية ودينية واجتماعية وثقافية لإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي المتناسب مع ما جاء في الآية القرآنية. ضع نفسك للحظات موضع المسنّ في البعدين: الجسدي والنفسي، وسيساعدك ذلك كثيراً في إدراك كيفية التعامل معه، ورعاية المرحلة الحساسة التي يعيشها، وبالتالي تلبية احتياجاته الجسدية والنفسية بالصورة المثلى.