خطبة الجمعة 21 ربيع2 - 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: الأخلاق التجارية


ـ عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
ـ كتبت الأسبوع الماضي ـ خلال فترة سفري ـ الجزء الأول من مقال بعنوان (الحية والسُّـلَّم) حول الخلل في بعض ما يتم التنظير له في مجال الأخلاق وأنه بحاجة ماسة إلى إعادة نظر.
ـ وذكرت ـ في المقال ـ عاملاً من عوامل هذا الخلل، ويرتبط بدخول بعض الشطحات الصوفية في البحوث الأخلاقية الإسلامية. وسأتجاوز هذا العامل إلى عامل آخر، وهو:
ـ تقديم (المادة الأخلاقية) بصورة (تجارية)! فكما أن الهم الأول للتاجر هو البحث عن الربح، فكذلك كثيراً ما يتم تقديم الأخلاق وكأن الهدف الأول منها تحصيل الأجر والثواب في الآخرة.. ولربما هذا ما جعل أحد العلماء يعتبر أن كثيراً مما يطرح باسم الأخلاق إنما كُتب للأموات لا للأحياء!
ـ والسؤال: عندما نتبنى القيم الأخلاقية ونعمل بها وننشرها وننميها في النفس، هل نهدف من ذلك في المقام الأول إلى تحصيل الثواب.. أم أن الثواب يأتي بالتبع وكنتيجة تلقائية ومحفِّزة.. بينما يكون الهدف الأساس هو تحقيق خلافة الله على الأرض من قبل الإنسان بالصورة المثلى؟
ـ بتصوري أن التعامل التجاري مع القيم الأخلاقية يُدخل الفرد أحياناً في عمليات حسابية تُفرّغ العمل من قيمته المعنوية، بل وقد تدفعه إلى اختيارٍ غير مناسب ـ على الأقل ـ وترك ما هو أولى وأحسن.
ـ مثال: شخص يمتلك مبلغاً من المال، ثم ينحصر الأمر بين أن يرفع معاناة أسرة فقيرة تمر في ظرف صعب جداً، وبين أن يؤدي حجة مستحبة في نفس هذا العام.
ـ وهنا يدخل في عملية حسابية مجردة، وبعيداً عن الجانب الإنساني في المسألة.. وعنوان هذه العملية الحسابية: أيهما أكثر ثواباً؟ فيبدأ بالبحث بين النصوص والسؤال هنا وهناك، وقد يصل بفهمه أو فهم البعض أن لا شئ يعدل الحج، ولو كان هذا العمل يتمثل في إنفاق مبلغ خيالي في سبيل الله.
ـ وفي المقابل لو أنه اعتمد على شعوره الفطري والترجيح العقلي لربما توصل إلى رجحان رفع معاناة تلك الأسرة.. فلم هذا التعارض، والمفترض أن لا يحدث مثل هذا التعارض بين التعاليم الدينية وبين حكم العقل وهداية الفطرة الإنسانية.
ـ بتصوري أن هناك مجموعة من الأخطاء التي يرتكبها الخطاب الإسلامي وهو يقدِّم ويعرض ويحلل المفاهيم الأخلاقية في المنظور الإسلامي، من خلال:
1ـ طرح المفاهيم الأخلاقية بصورة مشوشة أحياناً، نتيجة الاعتماد على نصوص دينية موضوعة أو منقوصة الفهم، مع الابتعاد عن المعطى الفطري والعقلي في تقييم تلك المفاهيم، في غفلة عن أن الدين يأتي لتأكيد تلك القيم الفطرية والمفاهيم الأخلاقية، وشرحها وتوسيع مداركها وتقديم مصاديقها.
2ـ تقديم البنيان المفاهيمي الأخلاقي بصورة لَبِنات مفككة ومفردات منفصلة، لا علاقة لبعضها ببعض، وفاعلة في مواقف دون أخرى.. مما يخلق حالة (فوضوية) في تركيبة الشخصية الأخلاقية عند الإنسان
المسلم، تؤهله لأن يكون متناقضاً مع نفسه، ويعاني من ازدواجية في الشخصية.
ـ وهذا ما ذمه القرآن في التربية الأخلاقية عند اليهود حيث قال: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) فقد انطلق الخلل السلوكي هذا من خلل مفاهيمي مرتبط بنظرة عنصرية تفصل سلوك المتدين باليهودية في تعامله مع اليهودي الآخر، عن تعامله مع غير اليهودي، وأعطوا لنظرتهم هذه امتداداً سماوياً: (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
ـ أما الموقف الذي يرتضيه الله، وهو بالتالي يتناغم مع العقل والفطرة: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى) مع جميع الناس بغض النظر عن الدين والقومية وغير ذلك (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)[آل عمران:75-76]، لأن التقوى حالة متجذرة في النفس ـ وهكذا الأخلاق ـ وهي لا تنفك عن الشخصية المتدينة وإن اختلفت المواقف أو تبدلت الظروف والأحوال.
ـ وهذا ينطبق على الغيبة والكذب والخيانة والنيمة والبهتان .. إلخ.
3ـ التفكيك بين الأخلاق والتشريعات الإسلامية بما يصل إلى حد التعارض والقطيعة أحياناً.. فهذا العمل جائز شرعاً، قبيح خُلُقاً! في غفلة عن أن للتشريعات مقاصد وعلل وحِكَم، وهي تأتي في جانب منها لتربية الإنسان أخلاقياً وتهذيب السلوك الفردي والاجتماعي، والارتقاء بالفرد وإعادته إلى حقيقته وفطرته الإنسانية: (لَقَد خَلقْنَا الإنسَانَ في أحسَنِ تَقوِيم)[التين:4]، والارتفاع بمستوى التقوى عنده (الصوم مثلاً)، ولتنظيم الحياة الاجتماعية وتنمية العلاقات الإنسانية (الزكاة مثلاً)، وقد اقترنت بعض النصوص التشريعية ببيان بعض تلك الغايات تحت عنوان (لعلكم تقون) (ليطهركم) وغير ذلك.
ـ ونتيجة الأسباب الماضية نجد أن هذا الفرد يحتار في ما يختاره في هذا الموقف، فالعقل والضمير يطلبان منه أن يتخذ قراراً، والخطاب الديني (القاصر أو المغلوط) يقدم له اختياراً آخر.
ـ ولذا من يعالج الحديث التالي بلغة الأرقام سيصل إلى نتيجة مخالفة لمن يعالجه بلحاظ ما ذكرت.. روي أن رجلاً سأل النبي: (إني خرجت أريد الحج، ففاتني، وأنا رجل مميل، فمُرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاج. قال: فالتفت إليه رسول الله(ص) فقال له: انظر إلى أبي قبيس. فلو أن أبا قبيس لك ذهبة حمراء أنفقتَه في سبيل الله، ما بلغْتَ به ما بلغ الحاج).
ـ هذا النص يعالج مسألة محددة، لا علاقة لها بالوقوع بين خياري أداء الحجة المستحبة ومساعدة المحتاجين، فهو ـ بحسب الظاهر ـ يتحدث عن الحج الواجب بأصل الشرع، ومن جهة أخرى يريد أن يغلق الباب أمام من تُسوّل له نفسه بترك العبادة في مقابل دفع (رسوم) مالية كبديل متصوّر عند البعض.
ـ وبالتالي فالحديث ليس في معرض بيان الأولوية التي تحدد قرارك بين الخيارين.
ـ ثم إن مسألة الثواب ومقداره لا يعلمه إلا الله، وهي مسألة نسبية تتغير بتغير الظروف والإخلاص في العمل وغير ذلك، ولذا نبه القرآن على الخطأ الذي وقع فيه البعض عندما دخل في عملية مقارنة اعتمدت على مرتكزات خاطئة: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[التوبة:20]. ـ لقد أكد القرآن الكريم على أن بعثة النبي (ص) جاءت لتحقيق حزمة من الأمور المترابطة ببعضها البعض: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)[آل عمران:164]، فالتزكية بالأخلاق غير منفصلة عن تعليم الأحكام، والأحكام غير منفصلة عن روح الإسلام وتعاليمه.. فهل نقدم الدين بهذه الصورة؟