خطبة الجمعة 23 ربيع1 - 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: الأمة الملعونة والأمة المرحومة


(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ، فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[المائدة:11ـ14]. ـ هذه الآيات الكريمة تقدم مجموعة من المعادلات والسنن الإلهية المهمة، وذلك وفق الملاحظات التالية:
1ـ الله سبحانه يذكّر المسلمين في آخر حياة النبي(ص) ـ بلحاظ وقت نزول سورة المائدة ـ بأنه دفع عنهم شر أعدائهم الذين أرادوا أن يفتكوا بهم ويقضوا عليهم.. فلم نالوا هذه الرعاية الإلهية؟
2ـ يحكي لهم الله سبحانه طبيعة المعادلة التي حققت للمسلمين الرعاية الإلهية بحفظ كيانهم ودفع كيد أعدائهم، وذلك من خلال تقديم نموذج عملي تاريخي متمثل في حال بني إسرائيل.
ـ فقد أخذ الله منهم ميثاقاً غليظاً بعدة مبادئ إيمانية وتشريعية وأخلاقية تمثلت في التالي: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)[البقرة:83ـ84]. 3ـ وجاء جانب من هذا الميثاق بلحاظ انقسامهم في الأصل إلى 12 عشر قبيلة وفرعاً منحدرين من أبناء يعقوب(ع) الإثني عشر، فقد كانوا يعيشون حالة من التمايز والاختلاف والتفاضل والصراع إلى درجة إباحة الدماء وهتك الحرمات في ما بينهم، بسبب هذا الانقسام العشائري، حتى أنهم كانوا بحاجة إلى12 نقيباً ومسؤولاً ينتمون إلى كل العشائر كي ينقادوا.
ـ ومما يكشف شدة حالة الانقسام التي كانت في ما بينهم نجد هذه الآية: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) [الأعراف:160]
فما كانوا يتحملون حتى المشاركة في ما بينهم في شرب الماء!
4ـ وبعد أن وحّدهم موسى(ع) في كيان واحد، وسعى أن يؤلف بينهم، عادوا بمرور الزمان ونسيان جانب من الميثاق فانقسموا إلى كيانات متصارعة، كلٌّ منها تستبيح دماء الأخرى.
5ـ وبسبب نقضهم لهذا الميثاق سلَب الله منهم رعايته ورحمته، فتكالبت عليهم الأمم حتى ضجوا فبعث الله إليهم طالوت ملكاً ليوحد صفوفهم ويواجهوا عدوهم، فلما توحدوا نصرهم الله وبلغت مملكتهم ذروة القوة على عهد داود وسليمان(ع). ولما عادوا إلى الفرقة سلب الله منهم رعايته ورحمته فكانوا من الملعونين.
6ـ ثم بعث الله المسيح(ع) إليهم ليذكرهم بالميثاق، ويُلزمهم به، فآمن به قوم منهم، والتزموا بالميثاق، حتى إذا نسوه بمرور الزمان وتخلوا عنه، كانت النتيجة: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
ـ فالآيات وإن كانت تتحدث عن أهل الكتاب، إلا أنها توجه رسائلها إلى المسلمين بأن هذه هي المعادلة الإلهية، وقد قُدمت إليكم في قالب عرض تاريخي، وما حال الفرقة والاختلاف والتنازع والتناحر في ما بين المسلمين، حتى يستلذ (مسلم) بنحر (مسلم)، إلا ويأتي في جانب مهم منه بسبب خلل داخلي كبير.
ـ لقد تخلى المسلمون عن الميثاق الإلهي الذي جاء في القرآن وعلى لسان النبي، على مستوى الإيمان والشريعة والأخلاق، والنتيجة هي ما يعانون منه اليوم، إذ أصبحت أمة الإسلام أمةً مسلوبةَ الرحمة.
ـ لقد اختار المسلمون ذلك، وهذا ما يعكسه استحكام حالة العداوة والبغضاء إلى المستوى الذي نعيشه اليوم، لا بين المذاهب فحسب، بل وحتى في ما بين أتباع المذهب الواحد.
ـ لقد قدّمت الآيات السابقة عرضاً تاريخياً لحال بني إسرائيل لا من باب الشماتة، بل للتحذير.
ـ ووقعنا في المحذور.. قبل سنوات لو كان أحدنا يدعو أحد علماء أهل السنة للمشاركة في احتفال بكلمة تذكّر بكل نقاط الالتقاء بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، لانبسطت أساريرنا، واعتبرنا ذلك نجاحاً.
ـ ولو أن أحداً من أهل السنة دعا عالماً شيعياً ليشارك في مؤتمر، لاعتُبر ذلك تقدماً في مشاريع التقريب. ـ وانظر إلى حالنا اليوم.. والله إن أحدَنا لا يجرؤ حتى لتقديم اقتراح في هذا الإطار، فضلاً عن أصل المشاركة، خوفاً من عدم الاستجابة أو من ردود الفعل السلبية من الحضور.
ـ قبل سنوات كان المؤلف يفتخر أنه كتب كتاباً وقدّم مشروعاً للتقريب بين المذاهب.. وأما اليوم فإن كتابه هذا يغدو أضحوكة، وبضاعة كاسدة.
ـ ونبقى نخدع أنفسنا ونقول أننا الأمة المرحومة.. نعم المرحومة لو أننا نتمسك بالميثاق.. ولكننا الأمة التي سُلبت منها الرحمة الإلهية بقدر ما تخلينا عن الميثاق بكل عناوينه الإيمانية والشرعية والأخلاقية.
ـ إن القرآن الكريم أكد في أكثر من موقع أن المعادلة الإلهية تراتبية، فعندما يلتزم المسلمون بالميثاق، تشملهم الرعاية الإلهية، فيؤلف بين قلوبهم، ويحقق لهم النصر على أعدائهم، وقد قال تعالى: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال:63]. وبمقدار ما يسعى الناعقون لتفريق الأمة وتدمير ما تبقى من مكامن القوة فيها، فإننا سنواجههم بتحمل مسؤوليتنا في الدعوة إلى الألفة في التعايش والتقريب على مستوى الفكر والوحدة في نطاق العمل والموقف استجابة لأمر الله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[آل عمران:104-103] ونبذاً لجهود إبليس وجنوده: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً)[الإسراء:53].