خطبة الجمعة 16 ربيع1 - 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: الإيثار في حياة النبي


ـ (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم:4].
ـ يقول أهل الاختصاص أن هذا التعبير أقوى دلالة مما لو قيل (وإنك لذو خلق عظيم) لما في التعبير الأول من دلالة على الاستعلاء والتمكن من الشئ، كما يدل على ذلك قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)[الأعراف:54] بخلاف التعبير الثاني الذي يدل على حصول الشئ لا أكثر.
ـ وهذا يعني أن النبي كان مستمكناً من الأخلاق التي اتصف بها، وهي تحت قياده وسيطرته التامة.
ـ ومن أهم أسس وقواعد التخلق بالأخلاق العظيمة هو التخلي عن الأنا، وهذا يأتي على مراتب، منها:
1ـ أن لا يعيش حالة الشعور بالوحدانية على الأرض، وكأن كل شئ موجود لأجله ولخدمته.
ـ وتتجلى هذه الأنا ابتداءً من سلوكيات الناس في الشارع وحيثما كان زحام أو حالة من عدم الانضباط، وانتهاء بذلك الحاكم المستعد أن يدمّر وطناً أو يُحدث فيه الفتن لينشغل الناس، من أجل أن يبقى في الحكم.
ـ والتجلي الأعظم لحب الذات يكون في مشهد يوم القيامة: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ،
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)[عبس:33-37].
ـ والأبشع من ذلك: (وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا، يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ، وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ، كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى)[المعارج:10-15].
2ـ أن يؤثر الآخرين على نفسه في ما يملكه ولكنه لا يحتاج إليه بل قد استغنى عنه.. ومثل هذا الإيثار ليس بتلك القيمة، ولذا قال تعالى: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران:92]. وقال عز اسمه: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)[الإنسان:8]. ـ والبعض من قوة الأنا عنده يحتفظ بهذا الشئ إلى أن يتلف ولا يقدمه لمن يحتاج إليه.
3ـ أن يؤثر الآخرين على نفسه في ما يحتاج إليه، لا في ما استغى عنه. وقد مدح الله هذه الحالة حيث قال: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر:9].
وقال: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)[آل عمران:92]. ـ وهكذا كان رسول الله(ص) في أعلى مراتب نكران الذات، وكان مرهف الحس في ذلك، لا يفر من حاجة الناس، بل يبحث عنها في أعينهم كي يخفف من معاناتهم ولو على حساب نفسه.
ـ لاحظ الخبر التالي الذي يرويه البخاري في صحيحه عن مجاهد أن أبا هريرة كان يقول: (الله الذي لا إله إلا هو، إن كنتُ لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنتُ لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ فلم يفعل، ثم مرّ بي أبو القاسم(ص) فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هر. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: الحَقْ. ومضى، فتبعتُه، فدخل فاستأذن، فأذِن لي، فدخل فوجد لبناً في قدح، فقال: مِن أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة. قال: أبا هر. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: الحق إلى أهل الصُّفّة فادعُهم لي. قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد. إذا أتته صدقةٌ بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هديةٌ أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها. فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله(ص) بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: يا أبا هر. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: خذ فأعطهم. قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يَروى ثم يرد علي القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي(ص) وقد رُوي القومُ كلُّهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال: أبا هر. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: بقيتُ أنا وأنت. قلت: صدقتَ يا رسول الله. قال: اقعد فاشرب. فقعدتُ فشرِبتُ. فقال: اشرب. فشربت. فما زال يقول: اشرب، حتى قلت: لا والذي
بعثك بالحق، ما أجد له مسلكاً. قال: فأرني. فأعطيتُه القدح، فحمِدَ الله وسمّى وشرب الفضلَة).
ـ وكان حيياً في حاجة الناس، فكان يُعطي الآخرين حتى لا يبقى له شئ، إلى درجة أن الله تعالى قال له: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)[الإسراء:29].
ـ وكان يؤثر الآخرين على راحته حرجاً حتى قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ)[الأحزاب:53]. ـ أيها الأعزة، يسقط الكثيرون أمام المغريات والمتطلبات المادية التي استحكمت في كل تفاصيل حياتنا، ولهذا السقوط دويٌّ في الآخرة، يتمثل بأبشع صورة، بالمستوى الذي يكون فيه الإنسان مستعداً لتقديم أبنائه وأعزته إلى النار لينجو هو بنفسه! ومن أهم أسباب هذا السقوط استحكام حالة الأثَرة الناجمة عن الاستغراق في حب الذات إلى المستوى الذي يفقد فيه الإنسان مقوّمات إنسانيته، تلك المقومات التي ترفعه من حضيض الهاوية إلى رفيع الدرجات: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) وما ذاك إلا باختيارٍ من الإنسان حين يرضى بالتخلي عنها، فيفقد أسباب الارتفاع، ليجد نفسه في أسفل سافلين.. وتبقى فئةُ (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) فقد عرفَت طريق النجاة في الاقتداء
بسيد البشر(ص) الذي أنكر ذاته لصالح البشرية، فخلّد الله ذِكره على كل لسانٍ ذاكر حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].