خطبة الجمعة 2 ربيع1 - 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية : التواصي بالمرحمة


ـ إن ما حدثنا به الله في القرآن الكريم من صفات رسول الله(ص) لا تتعلق بالتكريم فحسب، بل تُقدَّم إلينا نموذجاً حياً للاقتداء، وذلك عملاً بقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21).
ـ ومن المؤسف أن نجد صفة الرأفة والرحمة تغيب في عديد من المواقف عند المسلمين الذين يدّعون اتباع النبي في سنته، والتي هي قوله وفعله وتقريره، وتجاه بعضهم البعض.. ليحل محلها العنف والقسوة. ـ وهي وإن لم تنعكس على أفعالهم في بعض الأحايين، إلا أن واقع الحال يشهد على أن قلوبهم باتت قاسية على بعضهم البعض، وهي تنتظر الفرصة التي تفجر كل هذا الاحتقان ومشاعر الكراهية بصورة ما.
ـ ولو عدنا إلى القرآن، نجده يرسم معالم الشخصية المؤمنة في أكثر من موقع، ومنها قوله تعالى: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ)[البلد:12-18].
ـ وكأن الآيات هنا باستعمالها كلمة (ثم) تريد أن تقول أن المسألة الأخلاقية في الإسلام ليست مجرد حالةٍ ظاهرية تتلخص في عتق الرقيق وإطعام الطعام، بل لابد أن ترتكز على الإيمان في منطلقها، وتقوّي الإيمان في أثرها.
ـ كما أنها لابد أن تمتزج بالصبر والتواصي بالصبر من جهة، وذلك لصعوبة الاستمرار في التفاعل مع حاجات الآخرين والإيثار والعطاء على طول الخط، لاسيما بلحاظ تذبذب حب الذات قوةً وضعفاً، وبلحاظ تسويلات الشيطان الذي يعد بالفقر.
ـ ومن جهة أخرى لابد أن تمتزج بالعاطفة الفاعلة والمحركة والمسؤولة والتي عبرت عنها الآية بـ (المرحمة)، وبالتواصي بهذه المرحمة التي من المفترض أن صفتي (الرحمن الرحيم) المتكررة في أقوال الإنسان المسلم لذات الله قد زرعت ورسّخت فيه هذه القيمة الإنسانية الرفيعة.
ـ وما فقدان ذلك على مستوى كثير من المسلمين إلا دليل على أن المسألة عند هؤلاء هي مجرد شكليات وكلمات غير واعية، ومفاهيم غائبة أو مشوهة، ولغياب حالة التواصي بالصبر على القيم، ولغياب حالة التواصي بالمرحمة، وإحلال كل أنواع التواصي بالحقد وسوء الظن والكراهية الطائفية والقبلية والعرقية والقومية محلها.
ـ فما هدَمَه القرآن وهو يتحدث عن صفة النبي(ص) والأساس القيمي في علاقته بالآخرين، يبنيه هؤلاء المسلمون كل يوم بالتخلي عن تلك القيم، وبالتواصي بالمبادئ الجاهلية والدعوة إلى الكراهية والعنف.
ـ ولعل مما يساعد على إعادة حالة المرحمة ما يلي:
1ـ الاقتناع بها كمبدأ أساسي للأمن الاجتماعي للجميع.
2ـ المراقبة والسيطرة على النفس وتحصينها من التفاعل مع خطاب التطرف والعنف والكراهية.
3ـ التواصي والتأكيد والتذكير بالمرحمة وآثارها والتصابر عليها.
4ـ تحشيد الأصوات المنادية بنبذ العنف وخطاب الكراهية وتفعيل دورها.
5ـ النهوض بمشاريع فاعلة لترسيخ قيم المرحمة بعيداً عن العناوين المفرّقة مذهبياً وقومياً وقبائلياً.
إن التأكيد على التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة في الآية يعمل على توجيهنا إلى تحمُّل المسؤولية في إشاعة القيمة الروحية الأخلاقية في الوعي الاجتماعي وهي المسؤولية النابعة من وظيفتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ لا مجال للمواقف الانعزالية عن مجريات الواقع الإنساني من حولنا، لأن المسألة تتصل بأمن الجميع، وما النار التي تضطرم في دائرة محدودة اليوم، إلا وهي مرشحة لأن تستشري غداً حيث نشعر أننا في مأمن منها.. نستجير بالله من ذلك. اللهم اجعل هذا البلد آمناً وسائر بلاد المسلمين.