خطبة الجمعة 2 ربيع1 - 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الأولى: نبي الرحمة


(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)(التوبة:128) ـ في هذا التعبير ألغى القرآن كل الفوارق القبلية والعائلية في طبيعة العلاقة التي ربطت النبي(ص) بالناس، وركّز على المشترك الإنساني، والمحيط المكاني الذي جمعهم، ليقول لهم: أيها الناس، إن هذا المبعوث إليكم لم يأتِ من المجهول لتتوجسوا الخوف من دعوته.. ولم يأتِ من علياء ليعيش الكبرياء في نظرة دونية لمن تحته.
ـ بل هو من أنفسكم.. لقد وُلد بينكم، وعرفتموه يتيم الأب من حين ولادته، فحُرِم من رؤيته، وعاش يُتم الأم مُبكِراً، فحُرِم حنان الأم ودفء أحضانها.. ولم يكن له أحد من الإخوة ممن يكبره، فحُرِم رعاية من يعاضده.. وعانى من الغربة في الصحراء مع بني سعد في طفولته الأولى.
ـ ولعل طفلاً يعاني كل هذا الحرمان لن يكبر ليكون سوياً، فضلاً عن أن يكون بالصفات التي جاءت في الآية السابقة، ولكنها العناية الإلهية التي شاءت أن يعيش في أجواء رعاية السماء: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)[الضحى:6-8] وبتعبير الإمام علي(ع): (ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم مَلَك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومَحاسِنَ أخلاقِ العالَم، لَيلَهُ ونَهارَه) ليكون ملائكياً في مشاعره، روحانياً في أخلاقه، عظيماً في صفاته. ـ أيها الناس، لقد عاش محمد بينكم كبيراً، فكان الصادق الأمين الذي يُشار إليه بالبنان، وترتاح إليه الأنفس.
ـ وبُعث في الأربعين بالنبوة فما ازداد إلا إنسانيةً ورحابةً وحرصاً عليكم.
ـ وحتى عندما واجهه المشركون منكم بكل أنواع القسوة والعدوان دعا وهو يمسح دم الجراح عن وجهه قائلاً: (اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون) لأنه كان على يقين من كلام ربه حيث قال له: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ)[البقرة: من الآية74]، فكان يترقب تحوّل تلك الحجارة التي يُرمى بها إلى ينابيع من الخير، ويرجو تحوُّلَ تلك القلوب التي تحجَّرت إلى فيوضٍ من الرحمة.
ـ ولما غدا في موقع القيادة مع المسلمين منكم، تفاعل مع الأحداث التي عشتموها، فتألم كما تألمتم، بل وتألم ـ في أجواء المحنة ـ لآلامكم، بينما قد لا يفكّر الإنسان حينها إلا في نفسه، أو في الدائرة القريبة المحيطة به.. لأن محمداً كان الرؤوفَ الرحيمَ بكم.. كما أن الله هو الرؤوفُ الرحيم.. فقد تخلَّق محمد بأخلاق الله.
ـ وما كانت هذه الرأفة والرحمة حبيسة القلب والمشاعر، بل كانت مظهراً حياً فاعلاً وبارزاً في سلوكه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران:159].
ـ وحين جاءت لحظة الغلبة والانتصار، وتخوّفت نفوس المشركين منكم من الانتقام والثأر والإذلال، هتف
قائلاً: (اليوم يوم المرحمة، اليوم يُعِزُّ اللهُ قريشاً)!
ـ لقد كان رسول الله(ص) كما أراد الله له حيث قال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الانبياء:107]، فكان رحمةً للعالمين في كل شمولية الرحمة العميقة والممتدة.. ولكن أين هي الرحمة اليوم في واقع المسلمين تجاه
بعضهم البعض، وتجاه الإنسان الآخر؟ (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[البقرة:74]. ـ عن أبي محمّد العابد، قال: سألت مولاي الإمام الحسن العسكري(ع) في منزله بسرّ من رأى سنة خمس وخمسين ومائتين يملي عليّ الصّلاة على النّبي وأوصيائه(ع) وأحضرت معي قرطاساً كبيراً، فأملى عليّ لفظاً من غير كتاب وقال: أكتب. (اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد كَما حَمَلَ وَحْيَكَ، وَبَلَّغَ رِسالاتِكَ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّد كَما أحَلَّ حَلالَكَ، وَحَرَّمَ حَرامَكَ، وَعَلَّمَ كِتابَكَ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّد كَما أقامَ الصَّلاةَ، وَآتَى الزَّكاةَ، وَدَعا إلى دينِكَ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّد كَما صَدَّقَ بِوَعْدِكَ، وَاَشْفَقَ مِنْ وَعيدِكَ،وَصَلِّ عَلى مُحَمَّد كَما غَفَرْتَ بِهِ الذُّنُوبَ، وَسَتَرْتَ بِهِ الْعُيُوبَ وَفَرَّجْتَ بِهِ الْكُرُوبَ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّد كَما دَفَعْتَ بِهِ الشَّقاءَ، وَكَشَفْتَ بِهِ الْغَمّاءَ، وَأجَبْتَ بِهِ الدُّعاءَ، وَنَجَّيْتَ بِهِ مِنَ الْبَلاءِ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّد كَما رَحِمْتَ بِهِ الْعِبادَ، وَأحْيَيْتَ بِهِ الْبِلادَ، وَقَصَمْتَ بِهِ الْجَبابِرَةَ، وَأهْلَكْتَ بِهِ الْفَراعِنَةَ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّد كَما أضْعَفْتَ بِهِ الأمْوالَ، وَاَحْرَزْتَ بِهِ مِنَ الأهْوالِ، وَكَسَرْتَ بِهِ الأصْنامَ، وَرَحِمْتَ بِهِ الأنامَ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّد كَما بَعَثْتَهُ بِخَيْرِ الأدْيانِ، وَأعْزَزْتَ بِهِ الاْيمانَ، وَتَبَّرْتَ بِهِ الاَوْثانَ، وَعَظَّمْتَ بِهِ الْبَيْتَ الْحَرامَ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَأهْلِ بَيْتِهِ الطّاهِرينَ الأخْيارِ وَسَلِّمْ تَسْليماً).