خطبة الجمعة 23 صفر 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: الانفتاح والحذر


(فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ) (الزمر:18) ـ هذه هي طبيعة الحياة، وطبيعة العقل البشري التي تفرض أن نعيش التعددية في الآراء، حتى في داخل الوسط الديني والمذهبي والعلمي الواحد.
ـ ولكن من جهة أخرى تأتي مجموعة من العوامل المحفّزة لتمسك الإنسان بمتبنياته، من قبيل حب الذات والانتصار لها.. القداسة المحيطة بالفكرة أحياناً.. الوحشة من مخالفة الموروث أو الجو العام.. العاطفة الجياشة وحماسة الشباب.. التحديات التي يواجهها من الخصوم وأجواء الصراع معهم، وغير ذلك.
ـ ولذا تأتي أكثر من آية في القرآن، ومنها الآية السابقة، لتطلب من الإنسان أن يعيش حالة من الانفتاح على الرأي الآخر، ويستمع إلى حججه، يستمع بتركيز، وليس مجرد سماع عابر، فيفكر، ويقيّم، ومن ثَمَّ يقرر ما هو الأحسن ليأخذ بعد ذلك خطوة إلى الأمام باتباع ذلك الأحسن.
ـ والتفكير في الآراء المختلفة بحيادية كما يتيح فرصة للوصول إلى الرأي الأحسن، فإنه يوفرّ درجة أعلى في فهم الرأي المختار، فقد يتصور الإنسان أن ما بيده يمثل الأحسن، ولكنه عندما ينفتح على الآراء الأخرى وحججها قد يصل إلى قناعة مختلفة، أو قد يزداد اقتناعاً بما يؤمن به بإعادة الدراسة والمقارنة.
ـ وقد روي عن النبي(ص) أنه قال: (الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، حيث ما وجدها فهو أحق بها). والضالة هي ما يفقده الإنسان فيبحث عنه بأشد الطلب. وفي المروي عن علي(ع) أن هذه الضالة قد تكون عند مشرك أو منافق، وهذا لا يمنع من الأخذ عنه، فالحكمة والفكرة التي تفيد الإنسان هي الغاية.
ـ وعن السيد المسيح(ع): (خذوا الحقَّ من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق، كونوا نُقادّ الكلام) والناقد هو الذي يفحص النقود ليكتشف ويفرز الجيد من الردئ والمغشوش منها.
ـ وفي المقابل فقد خطّأ القرآن المسارعة في تكوين الرأي قبل الاستماع إلى الطرف الآخر وحجته: (... وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ، يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[ص:24-26].
ـ كما ذم القرآن الامتناع عن الاستماع إلى الرأي الآخر: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[فصلت:26].
ـ وفي السيرة النبوية قصة ذات عبرة ينقلها الطفيل بن عمرو الدوسي الذي قدم مكة وقيل أنه كان رجلاً شريفاً وشاعراً لبيباً، فسعى إليه المشركون يحذرونه من الاستماع إلى النبي(ص) خوفاً عليه وعلى قومه، يقول: (فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى البيت الحرام كُرسُفاً) قطناً (فَرَقاً من أن يبلغني شئ من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه. قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله(ص) قائم يصلي عند الكعبة. قال: فقمت منه قريباً، فأبى الله إلا أن يُسمعني بعض قوله. قال: فسمعت كلاماً حسناً، فقلت في نفسي: وا ثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول! فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته؟ قال فمكثت حتى انصرف رسول الله(ص) إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته، دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فو الله ما برحوا يخيفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعته قولاً حسناً، فاعرض عليّ أمرك. قال: فعرض عليّ رسول الله(ص) الإسلام، وتلا عليّ القرآن فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه فأسلمت وشهدتُ شهادةَ الحق).
ـ بالطبع هذا لا يعني أن كل ما هو جديد بالنسبة إليّ يمثّل الحق، كما لا يعني أن كل ما هو جديد فهو باطل.. ومن جهة أخرى فليس بالضرورة أن يكون كل ما يُقدَّم باطل محض، أو حق محض.
ـ ولكن هذا الانفتاح على الرأي الآخر يحتاج أيضاً إلى ضوابط، منها:
1ـ الاطلاع الكافي والدقيق على أسس المتبنَّى الشخصي قبل الاندفاع نحو تبني الرأي الآخر، فقد يكون
متبناك فعلاً هو الأحسن ويعتمد على حجج قوية، ولكنك أخذته كموروث، ولم تبحث عن تلك الحجج،
فتتصور أن ما يُقدَّم إليك هو الحق لأنه مدعوم بحجج، وأن ما بيدك الباطل، لأنه عديم الحجج، أو ضعيفها.
2ـ لا تستسلم للحظة عاطفية، واعطِ نفسك فرصة للتفكير والمقارنة والاطلاع الكافي على ما عند الآخر، فقد يكون نتاجه الذي بين يديك جيداً، ولكن نتاجاته الأخرى تبيّن خللاً في متبنياته أو نواياه، وما أكثر الذين يدسون السم في العسل ويتقنون ذلك بحِرفية كبيرة.
3ـ تداول الأمر مع أصحاب الخبرة والعقل الراجح، فقد تفوتك بعض الأمور، وقد يخفى عليك ما يعلمه الآخرون، وبتعبير الإمام علي(ع): (مَن شاور الرجال شاركها في عقولها).
ـ في القرن الخامس الهجري سافر (عدي بن مسافر) من بعلبك إلى شمال موصل، متلبساً بالزهد، وقد قال فيه عبدالقادر الجيلاني أحد أئمة الصوفية: (لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة لنالها الشيخ عدي بن مسافر).. وما أن استقر في تلك المنطقة حتى أنشأ لهم دين اليزيدية التي تقدس إبليس!
ـ إن خطورة وحساسية الأمر تتمثل في حال الذين بُعث إليهم رسول الله(ص) بما هو جديد فرفضوا أن يستمعوا إليه وحاربوه فخسروا، وفي حال الذين جاء إليهم (عَدي بن مسافر) في ثوب المسلمين الزاهدين وأتاهم بما هو جديد، فآمنوا بكلامه، فخسروا!