صلح الحديبية والاتفاق النووي - الشيخ علي حسن

(لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح:27) كانت السنة السادسة للهجرة تقترب من نهايتها حينما رأى رسول الله صلى الله عليه آله وسلم في المنام أنّه دخل الكعبة وحلق رأسه وأخذ مفتاح البيت. فقصَّ صلى الله عليه آله وسلم رؤياه على أصحابه، وتفاءل بها خيراً. ولم يلبث أن أمر أصحابه بالتهيّؤ للعمرة، ودعا القبائل المجاورة ـ التي كانت لا تزال على شركها ـ إلى مرافقته. ولهذا شاع في جميع أنحاء الجزيرة العربية أن المسلمين سيتجهون في شهر ذي القعدة نحو مكة يريدون العمرة.
أبعاد متعددة:
لم تكن هذه الرحلة ذات بعد ديني فقط، بل انطوت على مصالح اجتماعية وأهداف سياسية، إذ كان يراد لها أن تعزز مكانة المسلمين في شبه الجزيرة العربية، وذلك:
1. لأنّ القبائل العربية المشركة كانت تتصوّر أن النبي صلى الله عليه آله وسلم يخالف كل عقائد العرب وشعائرهم الدينية، حتّى في الحج والعمرة التي ورثوها عن جده الأكبر الخليل إبراهيم عليه السلام. وأداء العمرة بهذه الصورة الجماعية سيقلّل من توجسهم من دينه وشريعته، ويفتح لهم آفاق الدخول في الإسلام أو الاقتراب منه.
2. إن رسولَ الله صلى الله عليه آله وسلم ذكّر الناس في المدينة بحرمة الأشهر الحرم ثم أمر المسلمين بأن لا يحملوا معهم من الأسلحة شيئاً إلاّ السيف الّذي يحمله كل مسافر معه، وهذا أمر آخر كان يحترمه العرب، وكانت رسالة أخرى في ذات اتجاه الأولى، وفنّد بها كل الدعايات المغرضة الّتي كانت تبثها قريش عن طبيعة الإسلام.
3. سيخفف جانباً من الضغط النفسي الكبير الذي كان يعيشه المسلمون وهم يعيشون حالة الحصار الاقتصادي والاجتماعي الذي فرضته تحالفات قريش مع قوى متعددة، كما وسيفتح باب لقاء المهاجرين بأهلهم الذين انقطعوا عنهم بعد سنوات الهجرة المديدة.
4. وإذا منعتهم قريش عن الدُّخول في الحرم، فإنها ستكون الملامة في ذلك وستكون في وضع حرج أمام حلفائها، بمنعها أناساً مسالمين يريدون أداء زيارة بيت الله الحرام الذي جعله حرم أمن لكل الناس.
اللجوء إلى الهدنة:
وبدأت الرحلة بمعية قرابة ألف وأربعمائة مُحرِمٍ أو أكثر، حتى إذا وصلت القافلة قرب مكة علم النبي صلى الله عليه آله وسلم بقدوم طلائع قريش لمنعه من دخولها، فغير طريقه باتجاه الحديبية التي تقع غرباً في طريق (مكة ـ جدة) حالياً.
أرسلت قريش مبعوثيها لتقصي حقيقة الرحلة، وبعد مفاوضات عديدة قال سهيل بن عمرو ممثل قريش للنبي صلى الله عليه آله وسلم: (أريد أن أكتب بيني وبينك هُدنة على أن أخلّيها لك في قابل فتدخلها، ولا تدخلها بخوف ولا فزع، ولا سلاح إلاّ سلاح الراكب، السيف في القراب). فقبل رسول الله صلى الله عليه آله وسلم وتضمنت الهدنة ما يلي:
1ـ تعهّد المسلمون، وقريش بترك الحرب عشر سنين يأمنُ فيهن الناسُ، ويكف بعضهم عن بعض.
2ـ من أتى النبي من قريش بغير إذن وليّه رَدّهُ عليهم، ومن جاء قريشاً ممّن مع النبي لم يردّوه عليه.
3ـ من أَحبّ من العرب أن يتحالف مع هذا الطرف أو ذاك فهو مسموح.
4ـ أن يرجع المسلمون عامَهُم هذا، على أن يعودوا في السنة القادمة لأداء العمرة في نفس الوقت، ويمكثوا في مكة ثلاثة أيام دون أن يحملوا معهم سوى سلاح المسافر، السيوف في القُرب.
5ـ أن لا يستكرَه أحدٌ على ترك دينه ويعبُد المسلمون الله بمكة علانية وبحرية، وأن يكون الإسلام ظاهراً بمكة وأن لا يؤذى أحد منهم ولا يُعيَّر.
6ـ لا سرقَة ولا خيانة، بل يحترم الطرفان أموالَ الطرف الآخر.
7ـ أن لا تعين قريش على النبي صلى الله عليه آله وسلم وأصحابه أحداً بنفس ولا سلاح.
تباشير الخير:
بالطبع كان البند الثاني في العهد هو الأصعب تقبلاً، وواجه النبي صلى الله عليه آله وسلم ضغوطاً واعتراضاً من بعض أصحابه، ولكنه بحكمته مضى قدُماً، لعلمه بأن البنود الأخرى كفيلة بتحقيق الكثير من المصالح في المستقبل المنظور.
وبدأت تباشير الخير تلوح في الأفق، فلم يدخل إلى المدينة بعدُ وإذا بسورة الفتح تنزل عليه: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)(الفتح:1) بكل ما في هذه السورة من بيان للنتائج الإيجابية والمغانم الكبيرة التي نالوها وسينالونها تدريجياً.
وبدأت بعض شخصيات ورجالات قريش كعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وبعض القبائل العربية تعيد حساباتها، فتعلن عن دخولها في الإسلام، حيث أنها أدركت أن موازين القوى قد تبدلت وانقلبت لصالح النبي والمسلمين.
وفُتِح الباب للنبي صلى الله عليه آله وسلم للتواصل مع القوى الكبرى حينئذ من ملوك وحكام الروم والفرس ومصر وغيرها عبر الكتب التي أرسلها إليهم، في دليل على دخول دولة الإسلام في مرحلة جديدة من العلاقات الخارجية ومن منطلق قوي.
كما أمِن المسلمون جانب قريش والعرب، ليتفرّغوا لترتيب عدة قضايا تمس واقعهم، ومن بين ذلك صراعهم مع اليهود الذين كانوا يمكرون بهم في خيبر.
الاتفاق النووي:
وبمناسبة الحديث عن التحالفات وعهود الصلح أود أن أتحدث عن جانب مما تشهده المنطقة اليوم، فمن الواضح أن خارطة التحالفات التي كانت تعيشها المنطقة بعد ثورات الربيع العربي وقبل عزل الرئيس المصري د. مرسي كانت خارطة مجنونة بتناقضاتها.. ومن الواضح أيضاً أنها لم تكن قادرة على الاستمرار بهذه الصورة، وبعد عزل الرئيس المصري بدأت تتشكل خارطة تحالفات جديدة ومقلقة في آن واحد..
إلا أن التفاهمات الأمريكية الإيرانية ثم توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة (5+1) بدأ يجر المنطقة بحسب المراقبين والمحللين السياسيين إلى تشكيل خارطة جديدة وتبدل لموازين قوى، نلاحظ بواكير بوادرها على سبيل المثال في التحرك التركي السريع نحو تحسين العلاقات مع إيران والعراق. وما نأمله هو التالي:
أولاً، أن يصب هذا في اتجاه تهدأة الصراع الطائفي المحموم والمجنون الذي تشهده المنطقة وتجرها إلى هاويةٍ لا قعر لها.
ثانياً، حل الأزمة السورية بما فيه خير هذا البلد الذي عانى شعبه الكثير على يد أطراف النزاع، وتم تدمير اقتصاده وبنيته التحتية بصورة لا تخدم إلا الكيان الصهيوني.
ثالثاً، أن تقرأ الكويت بكل دقة ما ستقدم عليه المنطقة من تبدلات لترسم سياستها الخارجية بحكمة عهدناها في أكثر من موقف خلال السنوات الماضية، دون أن يقتصر ذلك على سياسة المنح المالية التي هي بلاشك تجلب الخير والبركة للكويت، ولكنها في نفس الوقت غير كافية حتماً لترتيب أوراق علاقاتها الدولية في مثل هذه الظروف الدقيقة التي تمر بها المنطقة.