خطبة الجمعة 3 صفر 1435 الشيخ علي حسن ـ الخطبة الثانية: من صور النفاق


(وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ، وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ)[العنكبوت:10-11].
ـ من المعلوم أن سورة العنكبوت من السور المكية، وبالتالي فإن من الغريب أن تتحدث السورة عن المنافقين، الذين نعرف أنهم ظهروا في المدينة المنورة.
ـ ثم لِمَ يظهر النفاق في أجواء عصيبة؟ فالمسلمون لم يمثّلوا قوة في مكة، بل كانوا مستضعفين، والنفاق إنما يظهر خشية القوي فيتظاهر المنافق بالانتماء إلى المجموعة القوية ولكنه في الداخل يستبطن العداء لها.
ـ يبدو أن أفراداً من أهل مكة دخلوا في الإسلام إعجاباً به، ورغبةً فيه، ولكنهم لم يكونوا من القوة ليصمدوا أمام التحديات الكثيرة والكبيرة التي كانت تواجههم في إسلامهم، ولربما أمام بعض الإغراءات التي كانت تُقدَّم إليهم.
ـ فتنازلوا عن مبادئهم، وتوجهوا إلى المشركين في حالة تصالحية طالبين منهم الاستمرار في الظاهر الإيماني من أجل التجسس على المسلمين أو لغير ذلك من الأهداف الخبيثة.
ـ أما مع المسلمين فإنهم اتخذوا من ماضيهم الإيماني غطاءً لستر كفرهم في الباطن، تماماً كما قال تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)(البقرة:14). ـ ثم إنهم يُبقون هذا النوع من الصلة مع الجماعة المؤمنة أملاً في أن ينالهم شئ من الخير فيما لو تحقق لها عند تبدل الظروف: (وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ).
ـ بل روي أنَّ مِن هؤلاء مَن خرج مع مشركي مكة في غزوة بدر، وأنفسُهم تحدّثهم أنهم إن لقوا المسلمين في ساحة المعركة فلن ينالهم منهم أذى، لأنهم أوهموا المسلمين مِن قبل أنهم يعيشون حالةً من التقية.
ـ وفي داخلهم كانوا يستهزؤون بضعف المسلمين في خبرتهم القتالية وقلة العدد والعتاد ولا يتوقعون لهم النصر، كما جاء في قوله: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ)[الأنفال:49].
ـ وقد أعطوا لأنفسهم مجالاً لنيل المكاسب المادية من الجهتين! ففيما لو انتصر المشركون، وهو الاحتمال الأقوى عندهم، فسيشتركون في الغنائم لأنهم جزء من الجيش.. وفيما لو انتصر المسلمون، وهو الاحتمال الأضعف بتصورهم، فلن ينالهم منهم شر، بل وسيطالبون بنصيبهم في الغنيمة، إذ يعدّون أنفسهم منهم!
ـ وهي فعلاً شخصية سقيمة وبتعبير القرآن: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ). وبروز النفاق يتوقف على عاملين:
أولهما: القابلية الذاتية، وهي موجودة في كل تجمع بشري، قال سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)[البقرة:8-10].
وثانيهما: وجود مَن يوجهها حتى تحترف النفاق بصورته العملية، من قبيل ما جاء في قوله سبحانه: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(التوبة:107) ـ وهذه القضية تستدعي وقفة مع النفس لتقييم المواقف التي يتخذها الإنسان تحت عنوان التقية.. التي لا خلاف على شرعيتها، بل وكونها سلوكاً عقلائياً.. ولكن الكلام هو متى يكون الموقف تقيةً بصورة مشروعة، ومتى يكون خداعاً للنفس للتهرب من المسؤولية، وخذلاناً وتخذيلاً تماماً كما عاشه منافقو مكة والمدينة؟ وإلى أي مدى يسترسل الإنسان في التقية دون أن يتحول الموقف بالتدريج ـ ومن حيث يعلم أو لا يعلم ـ إلى خذلان وتخذيل؟ هذه نقطة حساسة تستدعي أن يراجع المؤمنون مواقفهم بصورة دائمة، وأن تراجع الجماعات الإسلامية ذات النشاط السياسي مواقفها لئلا تقع في ما حذّر منه القرآن الكريم مراراً وتكراراً كتلك الصورة التي قدّمها حيث قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً)[النساء:97].